التغيير.. ترف أم ضرورة؟
المتتبع لما يجري على الساحة الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والتقنية، بل البيئية، يلاحظ سرعة غير مسبوقة في تطور الأحداث وتسارعها والتحديات التي تواجه من كتب الله لهم الحياة على هذه الأرض وفي هذه الفترة.
لعل من أهم معطيات هذه الفترة هي زيادة فاعلية الزمن وأثره في الأداء وفي اكتساب المعارف والخبرات. فما كنا نتعلمه في القرن الماضي في سنوات عدة أصبحنا نكتسبه في أيام، بل قل في ساعات أو دقائق. أصبح الزمن أكثر تأثيراً من ذي قبل وقلّت الحاجة إلى الحركة الحسية للحصول على المعلومة أو لأداء بعض الأعمال.. تردك المعلومة وأنت في مكانك أو بيتك، وتصل إليك مستحقاتك وأنت في المكان ذاته وتبيع وتشتري في الوقت والمكان نفسيهما، وتتخذ قرارات استراتيجية يتم تنفيذها في مكان يبعد عنك آلاف الأميال، كل ذلك يحدث وفي زمن قياسي ومن خلال جهود متواضعة ومحدودة.
وإذا ما استعنا بعلم الرياضيات في محاولة للخروج بنتائج علمية، فإننا نستطيع القول إن أعمارنا أصبحت أطول لأن قيمة الزمن أصبحت أكبر مع تحييد عامل التضخم بعد استعارته من الاقتصاديين، وإنجازاتنا أصبحت – من الناحية النظرية - أكبر ولو كان عالم الإدارة فردريك تايلور حياً لتوقع أن تتضاعف إنجازاتنا عشرات المرات لأن فاعلية وقيمة الزمان والمكان (عنصران أساسيان في الإنجاز) أصبحتا أعظم.
استناداً إلى نظرية Time & motion study.
كل هذه المعطيات التاريخية أصبحت تمثل لنا تحديات غير مسبوقة، أي أننا نحتاج إلى فكر جديد لا تشوبه رواسب العصور المظلمة، (أعني العقد الماضي). فكر يستطيع قراءة معطيات العصر ومستجداته وفاعلية الزمن ومعطيات المكان وأثره ومعطيات التغيرات التنموية من اقتصادية وإدارية واجتماعية وتقنية... إلخ وأبعادها، ومن ثم يستطيع التعايش معها والتأثير فيها.
نعم هي تحديات، لكنها تُمثل فرصاً أيضاً كما يقول الاقتصاديون إن الفرص تولد من رحم الأزمات، ويتحدث المثل الخليجي عن فرصة (الصيد في العجاج)، والعجاج هو شدة الغبار والأتربة المتطايرة التي تُمثل عقبة أمام الصيادين فيترك الكثير منهم ساحة الصيد للمهرة الذين يجدون فيها فرصة عظيمة.. والعجاج شيء مألوف متجدد ومتكرر في هذا الإقليم، بالتالي فإنه يمكن ضمه إلى قائمة الطاقة المتجددة إذا كان ذلك لا يزعج معالي الصديق الدكتور هاشم يماني.
ومن هنا فإن علينا التسليم بأننا إذا ما أردنا أن نحول تلك التحديات والمشاكل إلى فرص فإن علينا القبول بالتغييرات، أعني تغيير المسلمات الإدارية والاقتصادية التي سادت أداءنا في الفترة الماضية.. لا يمكننا التعامل مع المستجدات الحالية الملموسة بما لدينا من معطيات العصور السابقة، ولا يمكننا استخدام مفاهيم العمل وآلياته السابقة للتعامل والتعايش مع معطيات الفترة الحالية، يقال: إن الذي أوصلك إلى ما أنت فيه لن يوصلك إلى ما تبتغيه. لم يعد كافياً أن نقرأ الماضي لنتعايش مع الحاضر أو أن نستشرف المستقبل لنستجيب لأحداثه، بل إن الأمر يتطلب أكثر من ذلك.. علينا أن نسهم في صياغة المستقبل ذاته ونصبح جزاء من صنعه ونؤثر فيه لا أن ننتظر أحداثه ونحاول بأسلوب ردود الأفعال أن نتعايش معها.
تقول أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية ''لم يعد السؤال هو هل نتغير، أي نقبل التغيير أم لا؟ إنما هل نحن نتغير بالسرعة المطلوبة؟''.
كل هذا يقودني إلى القول إن التغيير أصبح ضرورة لا خيارا، إذا ما أردنا أن نحقق لأنفسنا وللأجيال القادمة الخير والنماء - بإذن الله.. التغيير المقصود هنا هو التغيير الإيجابي. في تفكيرنا وقراءتنا لما يجري من حولنا، تغيير في منهج اقتصادنا وإدارة مواردنا (غير المتجددة) واستثمارها بطريقة تحاكي معطيات العصر ومتطلباته ومستجداته، تغيير في أسلوب إدارتنا للمال العام، تغيير في أدائنا لأعمالنا وإدارتنا لتنفيذ برنامجنا ومشاريعنا وفي تعاملنا مع قضايانا الاجتماعية التي أصبحت تؤرق الكثير، تغيير في تقديم خدماتنا لمجتمعنا... إلخ.
وباختصار فإننا مطالبون بالعمل على إحداث تطوير جذري في المفهوم وفي الآلية.
حتى نخرج من دائرة التنظير إلى العمل فقد يكون من المناسب الأخذ بأحد البدائل التالية:
البديل الأول
إنشاء مجموعات عمل متخصصة في القطاعات التنموية - تقوم بقراءة معطيات الحاضر واستشراف المستقبل في القطاع ذاته، ومن ثم تقوم بالتنسيق مع الوزارات أو الجهة التنفيذية المعنية في الدولة لصياغة رؤية واضحة لمسيرة التنمية الوطنية في ذلك القطاع خلال الفترة الزمنية قصيرة ومتوسطة المدى، ويتم رفع النتائج لولي الأمر للنظر فيها وإقرارها.
البديل الثاني
أن تتم إضافة وزراء ظل لكل وزير تنفيذي، خاصة الجهات المعنية بقطاعات التنمية الحديثة، ليتفرغ الوزير الأصل للتخطيط والعمل الاستراتيجي بعيداً عن الأعمال اليومية الروتينية التي تشغل بال الكثير منهم وتستنفد أوقات عملهم.
البديل الثالث
أن يقوم المجلس الاقتصادي الأعلى والمعروف بكفاءته وكفاءة القائمين عليه بالتعاون المباشر مع الوزارات والأجهزة الرئيسة في الدولة بصياغة رؤية واضحة ومفاهيم عمل وآليات أداء تتناسب مع مستجدات العصر ومتطلباته، ويمكن للمجلس الاستعانة بالمراكز الاستشارية العالمية ودور الخبرة.
البديل الرابع
أن يتم الجمع بين كل هذه البدائل.
وباختصار فإن الذي أردت أن أطرحه هو التذكير بأهمية الوقوف قليلاً مع النفس ومراجعة مفاهيمنا وآليات عملنا في ضوء مستجدات المرحلة، وكما قيل إذا كنت لا تعلم إلى أين أنت ذاهب فلا يهم أي طريق تسلك، نحن على يقين بأن المسؤولين لديهم القدرة على استشعار المسار، لكن وضح الطريق يطمئن الفريق. والله ولي التوفيق.