الفكر الاقتصادي الواقعي

هناك حقيقة لا يزال الاقتصاديون يعانون آثار صدمتها وإفرازاتها منذ الأزمة الاقتصادية العالمية، وهي إفلاس الفكر الاقتصادي التقليدي، في سياق إفلاس تاريخي منقطع النظير للمؤسسات والمصارف والحكومات والأفراد.. بل حتى محال البقالة. فالواقعية تحتم علينا أن نعترف بأن هذا الفكر كان ضحية من ضحايا الأزمة الكثيرة، المتشعبة، المتصلة.. والمتواصلة. الأفكار والنظريات التي طرحها كل من كارل ماركس وجون كينيز وجوزيف شومبتير وآدم سميث.. وغيرهم من المفكرين، لم تصطدم فقط مع الحقائق الاقتصادية الجديدة، بل انزوت بعيداً. بل إن بعض ما طرحه هؤلاء، بات مثاراً للسخرية عند المتورطين والمورَطين، وأن جانباً من هذه النظريات كان له دور (بأشكال مختلفة) في تفجر الأزمة الكبرى، التي تحولت بالفعل إلى طارح جديد للنظريات، بل فارض لها أيضاً، و"مهندس" جديد للاقتصاد العالمي، بصرف النظر عن التصريحات الاقتصادية "العنترية" التي تفرضها عادة الحاجة السياسية، ومعها الضرورات الحزبية.
نعم، لقد وقف الفكر الاقتصادي عاجزاً أمام ما حدث (ويحدث)، وأُقصي من تبعات الحدث. فلا الاقتصاد الشمولي صمد، ولا الاقتصاد الرأسمالي قاوم. وعندما بدأ الاقتصاديون الجدد، الذين يؤمنون بضرورة فتح السوق، بتكسير الحواجز، كانوا في الواقع يؤسِّسون للأزمة الكبرى، بمعاول الخراب. ألم يعلنوا منذ البداية أن السوق لا تخطئ، وإن فعلت فإنها تصحح خطأها بنفسها؟! ألم يتخذوا من المنادين القلائل بحتمية وضع ضوابط للسوق، أعداء لهم؟! ألم يفرضوا فكراً اقتصادياً جديداً على مبدأ التطور؟ فماذا كانت النتيجة؟ اقتصاد عالمي وهمي، حقيقي بأزماته، يحاكي غرائز كل الطبقات الاجتماعية، دون أن يوفر مخارج لتجنب المطبات المؤكدة. هذا الاقتصاد وفّر على مدى أكثر من عقدين من الزمن، كل الدعم السياسي للحكومات، ولا سيما في الدول الكبرى، إلى درجة أن اعتمدت هذه الحكومات على غرائزها الحزبية - السياسية، ولم تلتفت إلى المصالح الاجتماعية المستدامة لناخبيها.
هذا لا يعني أن الفكر الاقتصادي الذي تنوع في طروحاته على مدى أربعة قرون، يمكن أن يشكل بديلاً مثالياً لأي طروحات و"مهرجانات" اقتصادية. فرغم أهمية بعض مكنوناته، لم تكن له القدرة على فهم واقعي للمتغيرات والمستجدات على الساحة الاقتصادية العالمية، خصوصاً في البيئة التي أصبحت فيها السياسة هي التي تحدد معايير الاقتصاد، وفي كثير من الأحيان، لا تأخذ في الحسبان حقائق الاقتصاد. والمصيبة أن الدول الفاعلة أضرت بسياساتها هذه شعوبها، قبل أن يعم الضرر العالم أجمع. فلا غرابة إذن.. أن تقدم أكبر دولة رأسمالية في العالم (الولايات المتحدة)، على تأميم مؤسسات كبرى ومتوسطة فيها، في محاولة لمواجهة أزمة، كانت هي نفسها سبباً لها.
بعد الأزمة الكبرى، بدأت تتشكل نواة فكر اقتصادي جديد، لا يشبه الفكر السابق، ولا ممارسات "الكاوبوي" الاقتصادي التي ازدهرت في العقديْن الماضييْن. كما أنه لا يرتبط بمفاهيم ما بعد الحرب العالمية الثانية. هذا الفكر، لا يزال في مرحلة الولادة، وهو يتشكل على أساس ما هو موجود أصلاً على الأرض، لا على ما هو غير مرئي. ويحتاج الأمر إلى وقت ليس بالقصير، كي تُستكمل الصورة النهائية للاقتصاد العالمي وفق الفكر الجديد. ولأنه واقعي التكوين والمنشأ، فإنه سيكون بمنزلة ضمانة قوية لعدم وقوع الاقتصاد العالمي مرة أخرى في أزمة بشعة كتلك التي اندلعت في عام 2008، والتي دخلت التاريخ كأسوأ أزمة قاطبة. لم تترك الأزمة الكبرى مجالاً حتى لتطويع الفكر الاقتصادي وفق المستجدات والمتغيرات، لأنها أوجدت مستجداتها الخاصة التي لم يتوقع أحد في العالم أنها ستظهر على الساحة في يوم من الأيام. وفي ضوئها يظهر فكر اقتصادي مكلف، لكن لا لبس فيه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي