Author

لماذا لم تنهر اليابان تحت ضغط الدين؟ (1)

|
هناك اتفاق عام بين الاقتصاديين على أنه عندما تتجاوز نسبة الدين العام 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، فإن هذه الدولة تبدأ تواجه مخاطر تتعلق بقدرتها على خدمة دينها العام في المستقبل، وأن هذه الدولة ربما تواجه أزمة مديونية في حال استمر الدين العام في التصاعد وارتفعت معدلات العائد عليه. اليابان دولة تعدى فيها الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي نسبا غير معقولة ولفترة طويلة من الزمن، ومع ذلك لم تتعرض اليابان حتى اليوم لأزمة مديونية، وما زالت الدولة متماسكة اقتصاديا، ولم تنهر العملة اليابانية تحت ضغط الدين العام، فهل اليابان تمثل استثناء من القواعد المتعارف عليها حول النسب الآمنة للدين العام إلى الناتج؟ ولماذا استطاعت اليابان الاستمرار ولفترة طويلة من الزمن في أن تحتفظ بدين عام مرتفع جدا دون أن تواجه المشكلات المفترضة من الناحية النظرية؟ وهل يمكن أن تستمر أوضاع اليابان على هذا النحو في الأجل الطويل؟ في الجزء الأول من هذا المقال نقدم خلفية عامة عن الدين العام الياباني، وفي الحلقة الثانية نقدم أهم التطورات الهيكلية في الدين والتحديات التي تواجهها اليابان في المستقبل فيما يتعلق بدينها العام. اليابان واحدة من أقدم الدول في العالم ومن أكثرها استقرارا، وهي حاليا صاحبة أكبر ثالث اقتصاد في العالم بعد الصين، ووفقا لآخر التقديرات يصل الدين العام الياباني إلى نحو 12 تريليون دولار حاليا، وهو ما يجعله ثاني أكبر دين في العالم من الناحية المطلقة بعد الولايات المتحدة، ومن المؤكد أنه لولا الأزمة الحالية والتي صاحبها ارتفاع الدين العام الأمريكي بسبب جهود مكافحة الأزمة، لكانت اليابان صاحبة أكبر دين قائم في العالم من الناحية المطلقة. غير أنه كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تعد اليابان أكبر دولة مدينة في العالم المتقدم، حيث تصل نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 228%. غير أن أهم مزايا الدين الياباني على الإطلاق هي أن أكثر من 95 في المائة من الدين الياباني يتم الاحتفاظ به محليا، كما أن الدين الياباني مقوم أساسا بالين، العملة المحلية لليابان، وهذه نقطة في غاية الأهمية بالنسبة لعملية خدمة الدين. دول العالم المدين مثل مجموعة الـ PIIGS، تواجه أزمة ديون سيادية خانقة، وعلى الرغم من أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليابان تعد أكبر بكثير من هذه الدول، إلا أنها ما زالت تتمتع بقدرتها على زيادة دينها وبيع سنداتها بسهولة وعند معدلات فائدة منخفضة للغاية، بينما لا تتمتع الدول المدينة الأخرى بهذه المزايا. لتوضيح الصورة بشكل أكبر، دعنا نقارن وضع اليابان مع دولة مدينة أخرى مثل إيطاليا. الدين الياباني يمثل 228 في المائة من الناتج، بينما يمثل الدين الإيطالي 120 في المائة فقط من الناتج، ومع ذلك فإن إيطاليا تدفع نحو 7 في المائة معدل فائدة على سنداتها استحقاق عشر سنوات، بينما تدفع اليابان معدل فائدة لا يتجاوز 1 في المائة على نفس السندات. ولكن كيف تمكنت اليابان من بيع سنداتها في ظل هذا النمو الكبير في الدين ومعدلات الفائدة القريبة من الصفر؟ الإجابة تكمن في هيكل الاقتصاد الياباني ذاته الموجه أساسا نحو التصدير، حيث يحقق قطاع الأعمال فوائض تجارية كبيرة مع باقي دول العالم، من ناحية أخرى فإن لدى اليابان قدرا كبيرا من الاحتياطيات بالنقد الأجنبي والذي يستثمر جانب كبير منه في الدين الأمريكي، وعندما تقوم الشركات بإيداع هذه الفوائض والدخول في البنوك اليابانية فإن الأخيرة تقوم باستثمارها في شراء سندات حكومية. ويرجع انخفاض معدلات العائد على السندات اليابانية مقارنة بغيرها من الدول المدينة، إلى أن تمويل عمليات شراء السندات اليابانية يتم أساسا من خلال السوق المالي المحلي، حيث تتميز اليابان بارتفاع مستويات الادخار المحلي، سواء من جانب القطاع العائلي أو قطاع الأعمال، وبسبب الأوضاع الاقتصادية لليابان وضيق فرص الاستثمار بفعل دائرة الكساد التي يعانيها الاقتصاد الياباني منذ أكثر من عقدين، فإن المؤسسات المالية تجد الاستثمار في السندات اليابانية، على الرغم من تدني معدلات العائد عليها، بديلا أمثل، وهو ما يمكن الحكومة اليابانية من التمتع بعجز مالي كبير وفي ذات الوقت تدفع معدلات عائد متدنية على هذه السندات. هذا التمويل للدين الياباني بمثل هذه المعدلات المنخفضة يعد كأنه نوع من الضرائب على مشتري السندات اليابانية أخذا في الاعتبار الفرص البديلة لاستثمار الأموال في ديون حكومات أخرى. غير أن هناك الآن الكثير من الشواهد التي تشير إلى تغير هذه الأوضاع بصورة جوهرية، فالكثير من المراقبين أصبح ينظر إلى وضع الدين الياباني على أنه وضع غير مستدام. ذلك أن قدرة الحكومة اليابانية على خدمة ديونها ستعتمد من بين عدة عوامل على معدلات نمو الناتج، فطالما أن معدلات نمو الاقتصاد الياباني مرتفعة فسوف تستمر الحكومة اليابانية قادرة على خدمة دينها، إلا أن تراجع معدلات نمو الناتج المحلي الياباني يؤدي إلى تعقد مشكلة الدين حيث تنخفض الإيرادات العامة للدولة من ناحية وترتفع نسبة الدين إلى الناتج من ناحية أخرى. في ظل المعدلات المنخفضة للفائدة فإن أي ارتفاع ولو كان ضئيلا في معدل الفائدة سوف يرفع من تكلفة خدمة الدين العام الياباني على نحو كبير، على سبيل المثال إذا ارتفعت معدلات الفائدة على السندات اليابانية بمقدار واحد في المائة فقط فإن ذلك سوف يؤدي إلى تضاعف تكلفة خدمة الدين المحلي الإجمالي في اليابان، وهذا تحد كبير تواجهه اليابان حاليا. إذ إن عملية خدمة الدين العام تستهلك حاليا نحو ربع الإنفاق العام للدولة، ويتوقع في غضون عقدين من الزمان، بافتراض استمرار معدلات الفائدة الحالية، أن تصل هذه النسبة إلى النصف، وهو تطور خطير جدا، لأنه ليس هناك أي ضمان أن تستمر الحكومة اليابانية في الاقتراض عند هذه المعدلات المتدنية للفائدة. من ناحية أخرى ينظر لليابان اليوم على أنها صاحبة أسوأ هيكل سكاني من الناحية الديموغرافية في العالم، حيث ترتفع نسبة الشيوخ بصورة ملفتة للنظر، ونتيجة لذلك أخذت مدفوعات الرعاية الاجتماعية في التزايد من 20 في المائة من الإنفاق العام إلى نحو 30 في المائة خلال العشر سنوات الأخيرة، وهو ما يعني أن العجز المالي الياباني مرشح للانفجار في المستقبل، واليوم تقترب اليابان من حقيقة أنها لا يمكن أن تدفع دينها القائم عليها، وبالتالي فإنه قد تضطر إلى التمويل النقدي من خلال طباعة الين وتحمل مخاطر التضخم من أجل السيطرة على دينها العام، بالطبع من سيدفع التكلفة الحقيقية لذلك هم القطاع العائلي أساسا. على المستوى الخارجي بدأت اليابان تفقد اليوم بعض مقومات وضعها الدولي بسبب تراجع مستويات تنافسيتها، وفقدان ريادتها التقليدية في العديد من الصناعات الأساسية، فضلا عن الأثر السلبي لتصاعد قيمة الين. وبشكل عام أخذ الطلب على السندات اليابانية في الانحسار نتيجة تراجع معدلات الادخار بسبب شيخوخة السكان، في الوقت الذي يتصاعد فيه العجز المالي للحكومة، ومن ثم فإن الصورة العامة للدين الياباني في المستقبل هي استمرار اتجاهه نحو الزيادة، ولكن السؤال المهم هو إلى متى؟
إنشرها