أبعاد النموذج الاقتصادي السعودي (3 من 3)

أشرنا في المقال السابق إلى ضرورة توافر ثلاثة مرتكزات أساسية لبيئة النموذج الاقتصادي القائم على رأسمالية ريادة الأعمال. وهي توافر المنافسة العادلة، وشيوع المناخ الديمقراطي وانحصار البيروقراطية. فأما انحصار البيروقراطية فيجدر بنا أن نقف وقفة جادة لإعادة النظر فيما خلفته البيروقراطية من تبعات أصبحت في كثير من الأحيان عائقاً أساسياً للنمو والتطور وإسراع عجلة التنمية. فقد استشرت في عالمنا النامي الهيكلية الرأسية، والقرار البطيء، والإجراءات المعقدة، والتسويف الكبير، والتعطيل المتعمد، والتطويل المقصود، وكثرة اللجان وشيوع اللامسؤولية. وإذا كانت خطط التنمية تؤكد دعم القطاع الخاص وإتاحة الفرصة له للمساهمة الفاعلة في الناتج القومي، فإن ذلك لن يتحقق إلا حينما تتزامن معه الدعوة إلى تطوير الأجهزة الإدارية في المؤسسات العامة. إننا في هذه المرحلة في حاجة ماسة إلى مؤسسات تتبنى "الإدارة المتحررة" من الهرم المركز والهيكلية المعقدة في اتخاذ القرار، وتدرك هاجس السرعة، وتدعو إلى الإبداع والتجديد. ومؤسسات تحرص على تبسيط إجراءات العمل، وتعي أن الموظف إنما وجد لخدمة المستفيد، وهو الغاية المراد إرضاؤها، وأن الأنظمة واللوائح والإجراءات ما هي إلا وسائل لتحقيق ذلك. كما أننا في حاجة إلى مؤسسات تسخّر التقنية الحديثة لمتطلبات العملية الإدارية وفاعليتها، ومؤسسات تشرك الموظفين كافة في المناقشة العامة وخطط الجهاز وصناعة القرار وسبل التغيير الكفيلة بنجاحه وتطوره. وكما قال لويس كارول يجب أن يكون الهدف ضمان أن يعدو الفائزون في سباق المنافسة بأسرع ما يستطيعون، حتى يحافظوا على موقعهم، فإذا لم يتمكنوا توقف الابتكار وربما النمو نفسه.
هذه المرتكزات الثلاثة هي الأساس لبناء البيئة التنموية الاقتصادية القادرة على تبني وتطبيق النموذج الاقتصادي المنشود. واستعرض فريق العمل على مدى ثلاثة أيام تجارب الدول الناجحة بدءا باليابان ثم كوريا وفلندا والسويد وتايوان فلم يتهيأ لها هذا النجاح الكبير دون توافر هذه المرتكزات بتطبيقات متفاوتة تتناسب طردياً مع مستوى النمو والتنافسية. بل حتى إن الصين التي لم تنتهج الفلسفة المفاهيمية لتلك المرتكزات تمددت ونمت وتفوقت بالحجم الذي تساوى مع تبنيها وتطبيقها، وبلغة أخرى لو أن الصين وفرت كل تلك المرتكزات لاكتسحت العالم بدرجة أكبر مما عليه الآن بمراحل.
أما نجاح رأسمالية ريادة الأعمال فيتطلب خمسة متطلبات أساسية هي أولا: الثقافة المتضمنة التعليم والتدريب وانتشار الوعي بمهنية العمل الحر وريادة الأعمال. فالبداية السليمة والناجعة هي التي تبدأ ببناء فكر الإبداع والابتكار من مراحل التعليم الأولى وأن تكون تلك الموضوعات مدرجة في صميم مناهج التعليم العام وحاضرة في تطبيقاتها العملية. كما أن دعم البحث العلمي والمخترعين والمبتكرين والقادرين على تحويل أفكارهم إلى مشروعات تنموية منتجة يعتبر بمنزلة القاعدة التي ترتكز عليها ريادة الأعمال في هرم اقتصاد المعرفة. وأثبتت الدراسات أن التعليم الريادي المخطط والمركز كان السبب الأساس لتحقيق النمو الكبير في أكثر من دولة ومن بينها على وجه الخصوص الهند وكوريا وتايوان. ويبقى بعد ذلك التحدي الكبير وهو انبعاث ثقافة العمل الحر من جديد بعد أن طغت عليها آثار الطفرة الوظيفية والاتكالية المفرطة على الارتزاق من القطاع العام. وفي المقابل فإننا حين نعود بالتاريخ إلى الوراء نكتشف أن آباءنا قد استوعبوا أهمية هذه الثقافة التي افتقدناها اليوم، فقد كانوا يحثوننا على ممارسة العمل الحر من الصغر حتى نكاد نجزم أن كل من عاش في حقبة أجيال الخمسينيات والستينيات الميلادية كانت له تجربة بيع ريادية صغرى في حيه أو بين أصدقائه أو أمام مدرسته أو في مزرعته أو قارعة الطريق. وكانت الإجازة الصيفية المدرسية فرصة كبرى لا تفوت يكتسب منها الشاب تجربة ثرية لإثبات الذات والقدرة على تبني المخاطرة والاعتماد على النفس ومواجهة التحديات المالية والاجتماعية والنفسية ما تفوق أضعاف ما يجنيه من ريالات معدودة.
أما المحور الثاني لدعم ريادة الأعمال فهو دعم مؤسسات القطاع العام والخاص التي يجب أن تضطلع بدور حيوي كبير في خلق البيئة الصحية التي يمكن أن تنمو فيها مشاريع الرواد. فلا يكفي من القطاع العام التشجيع والتعاطف، بل نحن بحاجة إلى إضفاء مزيد من الثقة والاعتمادية على الرواد وذلك بإرساء المشاريع والخدمات الحكومية ومشاريع القطاعات الكبرى في القطاع الخاص كـ ''أرامكو'' و''سابك'' والشركات المساهمة والبنوك التجارية إلى رواد الأعمال. لا أن تكون شروط تلك الخدمات والمقاولات وتصنيفاتها معقدة ومحصورة في عدد محدود من الكبار. ومن الدعم المنشود ظهور مؤسسات وشركات رأس المال الجريء وصناديق الاستثمار المعرفي وصناديق ضمان التمويل الحكومية والمستثمر الداعم وحاضنات الأعمال. أما المحور الثالث فهو توافر البنية التحتية واللوجستية الأساسية ومن ذلك واحات المعرفة ومدن الإبداع ومراكز الابتكار وقرى رواد الأعمال التي تتوافر فيها المواقع والمقار والخدمات كالبريد والنقل والمواصلات. أما المحور الرابع فهو تطوير نظم المعلومات والاتصالات، فافتقاد البنى التحتية كالبرمجيات ونظام المدفوعات الإلكتروني والخدمات المساندة سيحول دون نمو المبادرين والقدرة على خلق فرص مشاريع جديدة والتمكن من المنافسة المحلية والإقليمية، ناهيك عن أننا نفتقر إلى كثير من المعلومات عن السوق والصناعة والإجراءات والدراسات السوقية والمسوحات الإحصائية الحديثة المهمة.
أما المحور الخامس فهو سن الأنظمة والقوانين الخاصة برواد الأعمال والمشاريع الصغيرة. كتوحيد جهة الاختصاص في الترخيص للمشروع الصغير وتسجيل إجراءات ومتطلبات رائدات الأعمال. وسن نظام تكافؤ الفرص وتسهيل استقدام العمالة والاستثناء من عدد من الرسوم. كما يمكن أن تتبنى الدولة فكرة تحديد مجال وصناعة محددة تخصص للمشاريع الصغيرة كما هو الحال في أمريكا، حيث خصصت صناعة الخدمات والأثاث التي لا تزيد على 100 ألف دولار للمشاريع الصغيرة فقط. فضلاً عن فتح مكتب خاص لتصدير منتجات المنشآت الصغيرة للأسواق الدولية. ومن ذلك الإعفاءات الجمركية، ودعم قوانين الملكية الفكرية وتحفيز الابتكار وتشجيعه بشكل كبير. وأخيرا سن قوانين حماية الإفلاس للمنشآت الصغيرة بحيث يزول شبح الإخفاق لدى رائد الأعمال، وتقل الهجمة المجتمعية نحو النظرة الدونية للمخفقين ولو لفترة زمنية متوسطة المدى لحين أن يدرك المجتمع متطلبات النجاح لرائد الأعمال.
وأخيرا، فإن تبني رأسمالية ريادة الأعمال لا يلغي الاهتمام ودعم الشركات الكبيرة، فكثير من أهداف الدولة المرحلية لا تتحقق إلا من خلال المشروعات الكبيرة المرحلية، كما أن بعض الصناعات الجوهرية والمستقبلية كالصناعات العسكرية والطاقة والفضاء وغيرها تتطلب استثمارات حكومية داعمة. ويرى الباحثون في ريادة الأعمال أن أكثر الاقتصاديات نجاحا هي تلك الاقتصاديات القادرة على خلق مزيج من رواد الأعمال المبتكرين والمؤسسات والشركات الكبيرة الراسخة التي صقلت مبتكراتها ومكنتها تلك الخبرة من أن تنتج بكميات كبيرة، تلك الابتكارات والأفكار والأساليب والوسائل التي أوجدها ابتداء رواد الأعمال. وختاماً فإن هدفي من طرح هذه الأبعاد للنموذج الاقتصادي السعودي هو حث المتخصصين والباحثين وصناع القرار لإثرائه ونقده ومراجعته أملاً في التوصل لبناء استراتيجي يستشرف معالم اقتصادنا الوطني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي