إغلاق «الساحة العربية» يسدل الستار على أبرز حراك فكري عربي
يُنتظر أن يسدل الستار مطلع الشهر القادم على موقع الساحة العربية الذي كان أول وأبرز موقع حواري عربي مع مطلع القرن 21 بالتزامن مع بداية دخول شبكة الإنترنت إلى العالم العربي.
وسرد تاريخ الساحة بكل سيئاته وحسناته أشبه بمشاهدة الحلقة الأخيرة من مسلسل مدبلج طويل لا يمكن - حتى تجاوزا - اختصار تفاصيل مئات ساعات بثه في ساعة وحيدة.
ويأتي هذا الإغلاق مبررا، وربما وبكل موضوعية متأخرا إلى حد ما، بالنظر إلى ما كانت عليه الساحة قبل سنوات وما هي عليه الآن، إذا يبدو إغلاقها الآن مشابها لاعتزال لاعب عالمي في أحد أندية الدرجة الثانية، ولا يمكن لأحد حتى أصحابها ومريديها سوى الاعتراف بأن الزمن ومتغيراته الكبرى قد تخطت الساحة وغيرها من مواقع الحوار ليس على الصعيد التقني وانتشار القنوات الإلكترونية التي يتم طرح كل الأراء عبرها دون رقيب فحسب، بل حتى على الصعيد الفكري والتحولات التي أصبح عليها الناس اليوم.
وبعد 15 عاما على انطلاق موقع الساحة العربية قرر أصحاب الموقع إغلاقه مطلع أغسطس القادم بحجة ارتفاع تكاليفه وضعف العائد منه بسبب انسحاب المعلنين، وهو سبب يبدو مقنعا لكل من عرف الساحة بحجم جمهورها ومشاركيها وكمية البيانات التي يستهلكها الزوار، لكن لا مجال لإنكار حقيقة أن مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها تويتر وفيس بوك وجهت ضربة قاضية لكل مواقع الحوار في العالم وليس الساحة العربية فقط وسحبت البساط من تحت كل منافس في مجال الحريات وطرح الأفكار. وانتشرت عبر تويتر بالذات حسابات لأكثر من 50 من أبرز المشاركين في الساحة الذين ودعوا الساحة العربية إلى فضاء تويتر الذي لا حد له.
واحتضنت الساحة العربية تيارات دينية وسياسية وفكرية متناقضة بلغ بعضها منتهى التطرف في الطرح وتجاذبت فيما بينها الآراء دون قيد أو التزام أدبي بالتوقف عند الحق وأوجدت دائما حالة من الارتباك لدى المتلقي الذين قبل بهذه الحالة من التناقض بينه وبين نفسه طمعا بالإيجابيات التي كان يجنيها من وجوده وسط هذا المجتمع الكبير الذين قدّر في أحيان كثيرة بأنه مكان لمليون كاتب وملايين القراء، وكانت مواضيع تافهة تطرحها أسماء وهمية نكرة تجتذب قراءات تتخطى الـ 100 ألف خلال يوم واحد في كشف دقيق لهوس المتابعة. ناهيك عن المواضيع التي يطرحها كبار الكتاب وتشهد نقاشات ساخنة.
ويقول أحد المشاركين في الساحة: لا يمكن توصيف ما قدمته الساحة سلبا وإيجابا، كنا نعرف بالحدث بمجرد حصوله، ثم نخضعه للنقاش والتحليل كل من زاويته وفي سبيل خدمة تياره وأهدافه، كدنا مرات عديدة أن نضل طريقنا بين الحق والباطل والشر والخير لكني وغيري من متابعي الساحة اكتشفنا أصناف الكتاب وأهدافهم مع المتابعة المستمرة وكان هذا تطعيما ضد الأفكار المنحرفة، وأضاف مستشهدا: رغم أني كنت أعيش في دولة الكويت إلا أنني لم أعلم بحصول الغزو العراقي سوى في التاسعة من صباح يوم الثاني من أغسطس أي بعد نحو عشر ساعات من بدايته، ثم لم تمر سوى عشر سنوات لأجد نفسي في قلب كل حدث.
وأنشأ الإخوان ''فارس'' من الإمارات بالتعاون مع أحد أصدقائهم ''الساحة العربية'' في عام 1997 كأول موقع للحوار العربي عبر الإنترنت والذي كان يتبع لشبكة فارس نت التي ضمت دليلا للمواقع وخدمات الدردشة وغيرها لكن الساحة كانت الجزء الذي طغى على الكل، وذابت فيها كل المسميات الأخرى. وحتى بعد مرور نحو 3 سنوات عند مطلع القرن لم يكن عالم الإنترنت العربي يحوي سوى منتديات تعد على أصابع اليد الواحدة لم تحظ بما حظيت به الساحة من الشهرة والانتشار.
ومع عامي 99 و2000 وبدء انتشار خدمة الإنترنت في دول الخليج كان لا بد لكل من عاصر تلك الحقبة أن يمر بالساحة التي وجهت صدمة ثقافية شديدة الأثر لمتابعيها الذين وجدوا أنفسهم فجأة ودون مقدمات أمام كنز من المعلومات والأخبار تصدق أحيانا وتكذب أحيانا أخرى كثيرة، وشهدوا بأنفسهم حروب الاعتدال في مواجهة التطرف يمنة ويسرة، وأثرت كل تلك الحروب الفكرية في نفوس المتابعين حتى بلغت ببعضهم إلى الموت والحياة دفاعا عنها أو جراء تبنيها.
وفي تلك الفترة كان التسجيل في الساحة متاحا لكل من يستخدم بريده الإلكتروني الرسمي الذي تزوده به جهة عمله أو الشركات المقدمة لخدمة الإنترنت قبل أن يغلق نهائيا لتنشأ سوق سوداء لبيع ''المعرفات'' وصلت ببعضها إلى الألوف من الريالات والدنانير، وأكد غير واحد أنه اشترى معرفه بمقابل مادي كبير من بعض من استطاع الظفر به بشكل أو بآخر. والساحة نفسها كانت هدفا للكثير لأسباب كان بعضها تجارية تارة، ورغبة في السيطرة والتحكم فيما يطرح تارة أخرى، وأكد أحد مشرفيها السابقين عبر تويتر أن أصحابها رفضوا عرضا ماليا لشرائها مقابل عشرة ملايين ريال في أوج مجدها.
ورصدت الاقتصادية تحولات كبرى في شكل الطرح وحدته لدى عدد من أعضاء الساحة السابقين الذين اتخذوا من تويتر منبرا لهم بعد أن هجروا الساحة من جراء مستوى الرقابة الشديد الذين اعتمده أصحابها في سبيل السيطرة على العدد الهائل من الأعضاء حيث كان قرار الإيقاف الدائم والمؤقت عقوبة مباشرة لكل من يخرج عن قوانينها التي انتهكت كثيرا لأن السيطرة على الموقع مهمة أقرب للاستحالة، كما تسببت هجمات ممنهجة من أنصار كل تيار في هجرة كثير من الأقلام التي عجزت عن صد ما يمكن توصيفه بدقة على أنه ''إرهاب فكري''.
وفي عام 2003 والعام الذي يليه ومع تصاعد الأحداث العالمية بشكل حاد بلغ التراشق اللفظي والفكري بين الأعضاء والمتابعين حدا لا يطاق أدى لحجبها في بعض الدول وهجرانها طوعا من آخرين، وكانت تلك لحظة التوهج العظمى التي خلقت الانفجار، وتلك هي ذاتها نقطة بدء الانحدار، وليس من رأى كمن سمع.