تتمتع المملكة بمساحة شاسعة أشبه بقارة، تنتشر عليها مناطق تختلف في بيئاتها الطبوغرافية، وإن كان للصحراء النسبة الغالبة، غير أن هناك بيئات متباينة بين الساحل والجبل والوديان والرياض، إلى جانب الصحراء.. وهذا التنوع في البيئة له أيضا تنوعه المناخي، وبالتالي فالأرض والمناخ في كل منطقة يكسبانها علاوة على ثرواتها الطبيعية مميزات نسبية لكل منطقة على حدة تتأثر بها طبيعة النشاط وأعمال المواطنين فيها، وبالتالي حجم الاقتصاد ونوعه في كل منطقة.
في كثير من دول العالم، خصوصاً المتقدمة أمكن تحديد اقتصاد كل منطقة بدقة وشمول، ولو أخذنا الولايات المتحدة على سبيل المثال، هناك تقدير محدد معلوم لوزن اقتصاد كل ولاية مع التفاصيل الأخرى، فاقتصاد ولاية كاليفورنيا مثلاً غير اقتصاد ولاية نيفادا في النوع والحجم والوزن، لكن مناطق المملكة التي أحدثت فيها مسيرة التنمية تحولات كبرى وتبدلت من حال إلى حال، حتى أن بعضها أصبح يشكل سلة غذاء الوطن وفائضاً للتصدير، ما زالت من حيث الرصد الاقتصادي الفعلي دون تقييم ودراسة لمكونها الاقتصادي وحجمه ووزنه ثم نسبة هذا الاقتصاد المناطقي للاقتصاد الوطني إجمالا ودرجة التفاوت في معدل الإسهام بين منطقة وأخرى.
أهمية هذا الرصد والتقييم والدراسة ليس للعلم المجرد به وإنما لأن تشخيص وتحديد وزن ومركبات اقتصاد كل منطقة يكشف لنا عن نقاط القوة فيها لاستثمارها استثمارا أجدى ومعرفة نقاط الضعف فيها وأسبابها وكيفية مواجهتها بحلول عملية تحيل المنطقة إلى كيان يضج بالإنتاج والخدمة النوعية بما يعزز مستوى التنمية بشكل عام، وبما يمنح للمنطقة نفسها حصانة الجذب للبقاء فيها من قبل مواطنيها بالأساس وللاستثمارات، وطنية كانت أو أجنبية، وهو مسار سيشعل فتيل التنافس الإيجابي لتحرص كل منطقة على ترجمة التميز بالإنتاج والعلم والعمل، وليس بالاتكاء على طبوغرافيتها ومناخها وثرواتها فحسب، التي ينبغي أن تكون مدعاة لخلق تنمية نوعية وليس للتواكل عليها أو استغلالها تقليدياً على نحو لا يفجر طاقاتها الاقتصادية والإبداعية.
قد تكون جامعات المناطق وإماراتها ومجالسها البلدية، بالتنسيق مع وزارة الاقتصاد والتخطيط طريقنا لدراسة اقتصاد المناطق ورصده ومعرفة حجمه ووزنه.. وبالتالي فرز المجالات الأفضل فيها للاستثمار للتركيز عليها وبحث وسائل استنهاض المجالات الأخرى التي قد تكون في حاجة إلى آليات جديدة لدمجها نشطة، إلى جانب ما هو بارز النشاط من المجالات.
وإذا كانت مدننا الكبرى تعاني اليوم اكتظاظا بالسكان وتزاحما في المرافق والمؤسسات الحكومية والخاصة.. فسيسهم التركيز على تفعيل اقتصاد المناطق وتحولها إلى مناطق جذب في بلورة تخطيط إداري للمناطق يتيح توزيعاً جديداً للمصالح الحكومية والشركات والمؤسسات الكبرى بما يتكشف أنه الأجدى لهذه المصلحة الحكومية أو تلك الشركة أو المؤسسة الكبرى، ما يعني نقلة نوعية في التخطيط الإداري للوطن على أساس اقتصادي يسهم في معالجة الاكتظاظ السكاني في مدننا الكبرى من ناحية، وخلق حوافز حيوية عصرية تتنافس مع غيرها في إبداع تنمية مستدامة من ناحية أخرى، وهو تخطيط سيجد من أدوات التقنية الحديثة والميكنة، إلى جانب تفعيل المواصلات، داعما يكفل للمواطنين الإحساس بجدوى الاستقرار في المنطقة والإحساس كذلك بالمشاركة في بناء الوطن حيثما يكونون.. وتلك مهمة غاية في النبل والطموح أيضا.. فمتى يتم القيام بها؟ وكيف الطريق إليها؟!
