Author

التضخم السعودي بين الأسباب المحلية والعوامل الخارجية

|
ارتفع الرقم القياسي العام لتكاليف المعيشة خلال العقود الثلاثة الممتدة من كانون الثاني (يناير) 1982 إلى كانون الثاني (يناير) 2012 بنسبة 45.7 في المائة، أو ما يمثل معدل نمو سنوي مقداره 1.3 في المائة خلال الفترة. وجاء هذا المعدل المنخفض نتيجةً للتقلبات في اتجاه تغيرات الأسعار خلال الفترة، حيث شهدت بدايتها استقرارا في مستويات الأسعار، ثم بدأت الأسعار بالتراجع الطفيف والتدريجي حتى نهاية عام 1987. وأدى تراجع أسعار النفط والعائدات النفطية إلى تراجع مستويات الإنفاق الحكومي مما خفف من ضغوط الطلب الكلي على الأسعار. وشهدت فترة الـ 18 سنة التالية والمنتهية بمنتصف 2005 استقراراً نسبياً في معدلات التضخم، حيث كانت تغيرات الأسعار محدودة، وتأرجحت بين صعود وانخفاض محدود خلال الفترة. ويلاحظ من الرسم البياني المرفق أن الرقم القياسي العام لتكاليف المعيشة هبط بعدة نقاط مئوية في نيسان (أبريل) من عام 1992، كما يلاحظ عودته للارتفاع بعدة نقاط مئوية في كانون الثاني (يناير) من عام 1995. ويعود الهبوط الحاد والارتفاع الحاد لهذين الشهرين إلى خفض أسعار منتجات الوقود والطاقة في عام 1992 ثم رفعها في كانون الثاني (يناير) 1995. وكانت أسعار منتجات النفط والطاقة قد خفضت بعد حرب الخليج ألأولى ثم رفعت بعد تراجع العائدات النفطية بقوة في تلك الفترة والالتزامات الكبيرة التي تحملتها المملكة نتيجةً لحرب الخليج الأولى. وبدأت معدلات التضخم بالارتفاع التدريجي منذ منتصف عام 2005، وتصاعدت وتيرتها بقوة في منتصف 2007 حتى وصلت أعلى مستوياتها في عام 2008، حين قارب معدل التضخم 10 في المائة. وقد جاءت الأزمة المالية العالمية لتهدئ من معدلات التضخم في كل دول العالم، وتراجعت مستويات التضخم في المملكة إلى 5 في المائة في السنوات الثلاث اللاحقة. ومن المتوقع استمرار التضخم في تسجيل معدلات قريبة من 5 في المائة خلال الفترة الحالية والمستقبل القريب. ويلاحظ من الرسم البياني إن معظم التضخم الذي حدث في العقود الثلاثة الماضية تركز في السنوات الست الأخيرة، حيث ارتفع بنسبة 38 في المائة في كانون الثاني (يناير) 2012 مقارنةً بالشهر نفسه من عام 2006، وهذا التركز قد يشعر البعض بأن معدلات التضخم كانت مرتفعة خلال الفترة كلها. وساهم العديد من العوامل المحلية والخارجية في رفع معدلات التضخم خلال الفترة الأخيرة. ويعتبر النمو الكبير في الإنفاق الحكومي، والسياسة النقدية المرنة، وارتفاع الدخول الاسمية، والنمو السكاني الكبير أبرز العوامل المحلية التي تقف وراء التضخم. ويرى الكثير من المختصين أن النمو القوي في الإنفاق الحكومي كان أقوى العوامل التي رفعت الطلب الكلي على السلع والخدمات إما بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عن طريق رفع الرواتب والتحويلات وجذب العمالة الوافدة بمعدلات أكبر بسبب طبيعة مشاريع التنمية المتركزة في مشاريع البنية الأساسية. هذا وقد ارتفع الإنفاق الحكومي من 285.2 مليار ريال في عام 2004 حتى تجاوز مستواه 800 مليار ريال في عام 2011. ورفع النمو الكبير في معدلات تدفق العمالة الأجنبية والنمو السكاني الطبيعي الطلب على السلع والخدمات وخصوصاً المساكن. ولم يصاحب النمو القوي في الطلب على المساكن نمو مماثل في العرض المحلي منها، مما أوجد ضغوطاً على تكاليف السكن. وقادت الارتفاعات الكبيرة في تكاليف السكن في إيجاد دورة من الارتفاعات في تكاليف السلع والخدمات الأخرى. من جهةٍ أخرى أدت زيادات الرواتب والأجور والتحويلات إلى رفع الدخول الاسمية مما ساهم في رفع الطلب على السلع والخدمات. وتسببت السياسة النقدية المرنة المطبقة منذ فترة في تدني معدلات الفائدة إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق مما رفع مستويات الائتمان الخاص واضعاً المزيد من الضغوط على الطلب الكلي. ويوجد عدد من العوامل الخارجية التي تؤثر على التضخم، ولعل أبرزها معدلات التضخم في الدول الرئيسية المصدرة للسلع والخدمات، ومعدلات صرف عملاتها مقارنةً بالريال، وكذلك أسعار الأطعمة والمواد الأولية في الأسواق العالمية. وقد كانت معدلات التضخم في الدول الرئيسة المصدرة للمملكة مرتفعة قبل الأزمة المالية العالمية ولكنها تراجعت إلى مستويات منخفضة في الوقت الحالي. أما معدلات صرف الريال مع بعض عملات الدول الرئيسة المصدرة للمملكة فقد تراجعت قبل عام 2008، ولكنها شهدت تحسناً بعد الأزمة المالية العالمية، مما هدأ من تأثير معدلات الصرف على التضخم المحلي. أما بالنسبة لأسعار المواد الأولية والأطعمة فإنها قد ساهمت بقوة في التضخم قبل الأزمة المالية العالمية، وقد تعود إلى تشكيل مصدر محتمل للتضخم المستورد، ولكن أسعارها تقع خارج نطاق وسيطرة صانع القرار المحلي. وعلى الرغم من أن معدلات التضخم المحلية أعلى بقليل من المعدل العالمي والذي تدنى بسبب تراجع النشاط الاقتصادي في الدول الصناعية، إلا أنها أقل من نظيراتها في الدول النامية والصاعدة. وعموماً لا تعتبر معدلات التضخم المسجلة في الوقت الحالي مرتفعة في ضوء الضغوط المحلية والخارجية المتعددة على الأسعار.
إنشرها