متى تغادر الكرسي؟

قبل نحو ثلاثة أسابيع تلقيت رسالة عبر البريد الإلكتروني من رئيسة جامعة MIT تبلغ فيها منسوبي الجامعة وآلاف الخريجين حول العالم قرارها بالتخلي عن منصبها، وأنها ستبقى على رأس العمل لحين اختيار رئيس جديد من قبل مجلس أمناء الجامعة. ذلك الاختيار قد يستغرق عاما أو أكثر من البحث والفحص لدقة المعايير التي تضبط عمل الفريق المكلف بتلك المهمة، وفي مقدمتها ضرورة وجود قدر معقول من التناغم بين مؤهلات وخبرات المرشحين وبين رؤية الجامعة لأولويات البحث العلمي خلال عشر سنوات قادمة على الأقل. كما أن هناك مزايا للإعلان المبكر عن تغيير رأس الهرم في الجامعة إذ إن ذلك يساعد في تهيئة أرضية العمل أمام قيادات الإدارة الجديدة لضمان انسيابية المرحلة الانتقالية وتوفير الاستقرار المطلوب في بيئة ذات تقاليد تستمد حيويتها وإبداعها من البحث والابتكار. وغني عن القول إن من بين الأسباب الأخرى لطول تلك المدة التي يستغرقها البحث عن الشخص المناسب هو أن دائرة انتقاء المرشحين واسعة ولا تقتصر على أهل الدار أي هيئة التدريس في الجامعة فحسب، وإن كان من بينهم العشرات من الفائزين بجائزة نوبل، بل تمتد ساحة البحث لتشمل جميع مؤسسات التعليم العالي في أمريكا الشمالية.
عندما تلقيت تلك الرسالة من الدكتورة ''هوكفيلد'' عاد بي شريط الذكريات سبع سنوات إلى الوراء يوم أن تسلمت تلك السيدة قيادة الجامعة، وتذكرت المخاوف التي عبّر عنها يومئذ البعض من منسوبي الجامعة حول قدرتها على قيادة ذلك الصرح العلمي الذي استطاع أن يحافظ طوال الـ 150 عاما الماضية على موقع لنفسه في القمة مع عدد محدود من نظرائه. وكان من بين أسباب ذلك التخوف أنه لم يسبق لها أن رأست جامعة من قبل، إذ كان أكبر منصب لها هو ''وكيلة جامعة Yale للشؤون الأكاديمية والإدارية''. كما ساهم في رسم تلك المخاوف حول مستقبل (إم. آي. تي) تحت قيادتها كون أنها أول امرأة في تاريخ الجامعة يسند إليها ذلك المنصب، كما أنها أول رئيس للجامعة لا تحمل شهادة في أي فرع من فروع الهندسة، على الرغم من أن الجامعة بات اسمها صنوا لحقل الهندسة إذا ذُكر أحدهما ذُكر الآخر.
لكن من يعرف ما تتمتع به تلك المرأة من خصال قيادية يدرك أبعاد ما أوجزته في رسالتها من إنجازات حققتها الجامعة أثناء فترة رئاستها والتي فاقت معظم التوقعات. وليس المقصود بكلمة ''الإنجازات'' هنا هو ما تعارفت عليه الكثير من الجامعات الأخرى كعدد براءات الاختراع، أو الأبحاث المنشورة في الدوريات المرموقة، وغيرها، إذ تعد تلك الأعمال في جامعة (إم. آي. تي) من الأمور المعتادة التي لا يتخطى الحديث عنها أو الإشادة بها جدران المختبرات التي أنجزتها. ولكن المقصود بالإنجازات في هذا المقام هي المبادرات الشاملة التي تشكل عملا مؤسسيا، لا فرديا، كمبادرة الطاقة التي أطلقتها ''هوكفيلد'' وحشدت لها كل ما لدى الجامعة تقريبا من عقول ومختبرات في برنامج طموح للمساهمة في البحث عن مصادر طاقة نظيفة ومستدامة. كما يُحسب لها مبادرتها لمزج الكثير من مناهج العلوم مع مناهج الهندسة على نحو غير مسبوق ما تولد عنه تقنيات جديدة لعلاج الأمراض بدقة وكفاية.
غير أنني توقفت عند السبب الذي ساقته رئيسة الجامعة لقرارها بالتخلي عن منصبها والعودة إلى مهنتها الأساس وهي التدريس في مجال تخصصها ''علوم الأعصاب''. ذلك السبب بكل بساطة، كما شرحته في رسالتها، هو قناعتها أن الوقت بات مناسبا لإسناد المهمة إلى شخص آخر لقيادة الجامعة في العقد القادم. إذ انتهت حملة التبرعات التي أطلقتها الجامعة أثناء فترة ولايتها، و بلغت حصيلتها أكثر من ثلاثة مليارات دولار رغم الظروف الاقتصادية الصعبة ما تطلب بذل جهود مضنية، وستنطلق قريبا حملة تبرعات أخرى ما يحتم خوضها من البداية بدماء جديدة.
ولابد أن أشير هنا إلى أن علاقة المملكة مع تلك الجامعة علاقة وثيقة تمتد إلى أكثر من 40 عاما، ويدرس فيها في الوقت الراهن نحو 24 طالبا في مراحل و تخصصات مختلفة ينتظرهم مستقبل باهر ـــ بإذن الله ــــ. كما أن هناك تعاونا كبيرا بين الجامعة وبين شركة أرامكو السعودية في مجالات الطاقة. و في المجال الأكاديمي هناك برنامج علمي مشترك بين الجامعة وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن في مجال المياه والطاقة، كما أن هناك برنامج تعاون طويل المدى نسبيا (لمدة عشر سنوات) بين كل من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية وتلك الجامعة لدراسة الأنظمة الهندسية المعقدة.
وبالعودة إلى عنوان المقالة فإن العبرة التي أود أن أستبقيها في ذاكرة القارئ مما سبق هي السلوك الحضاري في التعامل مع مسؤوليات الوظيفة العامة والقدرة على الاختيار الذاتي للوقت المناسب للتغيير، وترك الكرسي للآخرين، دون أن يطلب أحد منك ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي