من أين يبدأ الشهر القمري؟

من أين يبدأ الشهر القمري؟

من أين يبدأ الشهر القمري؟

قد يبدو السؤال عن مكان بدء الشهر القمري غريبًا لأول لحظة؛ وذلك لأن الشهر القمري زمن، وأين يُسأل بها عن المكان، لكن تزول الغرابة عند معرفة أن غالبية التقاويم الحالية تأخذ بمبدأ تحديد مكان لبداية الشهر القمري، ويمكن تناول الموضع من خلال ما يلي ## المسألة الأولى : مكان بدء اليوم الأرضي: يتكون الليل والنهار بسبب دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس. ولطبيعة شكل الأرض الكروي فإنَّ الليل والنهار في تعاقب دائم، وفي كل لحظةٍ على الأرض هناك شروق وغروب باستمرار. ولذلك كان لا بد من تحديد نقطة معينة يحكم فيها ببدء اليوم بالنسبة للكرة الأرضية بشكل عام، والذي يكون هو أول نقطة تُشرق عليها الأرض؛ منعًا لتداخل التوقيت، وضبطًا للتقويم، كأن يقال: يوم الجمعة على الأرض يبدأ بتحقق بدايته في نقطة كذا، ثم يكون دخوله تدريجيًا على بقية البلدان بحسب التوقيت المحلي لكل بلد على حدة. وعند الرجوع للأدلة الشرعية نجد أنَّه لم يَرِد في الكتاب أو السُّنَّة أو أقوال العلماء شيءٌ في تحديد المكان الذي يُحكم فيه ببدء اليوم الأرضي،. وإنَّما قد تعارفت البشرية منذ أن وُجدت على اتخاذ مشرق الأرض مكانًا لبداية اليوم، وسارت على ذلك تقاويمهم ومعاملاتهم وأعمالهم، واستقرَّ على ذلك عُرفهم، وإن لم يحددوه بنقطة دقيقة كما ظهر في الوقت الحالي. وفي العصر الحالي: دعت الحاجة إلى تحديد مكانٍ ما لبداية اليوم لتسهيل عملية وضع التقاويم، وضبط الوقت بين البلدان، فعمل واضعو التقاويم على الأخذ بما جرت عليه البشرية منذ القدم باتخاذ شرق الأرض مكانًا لذلك. فكان الاتفاق على تلافي مرور هذا الخط باليابسة، واقتصار مروره في الماء في المحيط الهادي عند خط طول (180ْ)، كما يظهر من الخريطة التالية: #2# ## سبب التعرُّج في الخط: لكن يُلحظ على هذا الخط أنَّه خطٌ مُتعرِّج غير مُستقيم، وسبب ذلك: تحاشي أن يكون لمكانين متجاورين على اليابسة فارق في التوقيت يبلغ يومًا كاملاً، أي أربع وعشرون ساعة، وذلك لأنَّه إن كانت الساعة عند خط (180)ْ هي الساعة (12) ظهرًا، فبالدوران حول الأرض شرقًا والرجوع لخط العرض نفسه تكون الساعة في المنطقة التي تقع إلى الغرب من هذا الخط هي (12) من اليوم السابق. رأيٌ آخر في تحديد بداية اليوم الأرضي: ظهر رأيٌ آخر عند بعض علماء المسلمين المعاصرين في المطالبة بجعل الخط المار بمكة المكرمة بدايةً لليوم الأرضي. وقد استدلوا على ذلك بأمور عديدة، من أهمها: 1 - أنَّ خط التوقيت الحالي هو خط وضعي مرتبطٌ بالتقويم الميلادي الشمسي، والنظام الزوالي. ويمكن أن يجاب عنه بما يلي: أنَّ وضع هذا الخط في مشرق الأرض واختياره لا علاقة له بالتقويم الشمسي أو الميلادي، ولا التقويم الزوالي أو الغروبي، وإنَّما هو عملٌ بما تعارفت عليه البشرية منذ القدم، واستقرَّ على ذلك عُرفهم. أما مكة المكرمة فلا تقع في مشرق الأرض، بل إنها في وسط اليابسة تقريبًا، واتخاذها مكانًا لبدء اليوم فيه تجاهلٌ لنصف العالم، وتأخيرٌ لبدء اليوم عن وضعه الطبيعي الذي خلقه الله عليه، وتغيير لليوم الذي تعارفت عليه البشرية منذ القدم. 2 - كما استدلوا بعدد كبير من الأدلة الشرعية والعلمية على فضل مكة ومكانتها وأهميتها بالنسبة للأرض. ويلحظ أنَّ معظم هذه الأدلة وخاصة العلمية منها غير سليمة، ويضيق المقال بذكرها والرد عليها، ويمكن الاكتفاء بالإحالة إلى أحد أهم البحوث في مناقشتها وهو بحث (مركزية مكة المكرمة والتوقيت العالمي) للدكتور حسن باصرة. وبالتالي: فإنَّ بداية اليوم الأرضي تبقى كما تعارفت عليها البشرية شرق الأرض. تنبيه مهم: ما سبق يختلف عن مسألة أخرى وهي اتخاذ خطة مكة نقطةً للتوقيت العالمي بديلاً عن خط جرينتش؛ لأنَّ هذه النقطة ستكون لمقارنة أوقات البلدان بعضها ببعض، وليس للحكم ببدء اليوم. وقد سبق أن تغيرت هذه النقطة في التاريخ مرارًا حسب القوى السياسية المُسيطرة: فقد كانت عند المسلمين الأوائل تمرُّ ببغداد حاضرة الخلافة الإسلامية، كما جعلها بعض العلماء المسلمين تمرُّ بالجزائر الخالدات المعروفة حاليًا بجزر الكناري في المحيط الأطلسي قرب المغرب، وهو ما عُرف عند الألمان بعد ذلك بخط (فيرو). كما جعلها الفرنسيون القدماء تمر بباريس، إلى أن استقرَّت في الوقت الحالي عند مرصدٍ بالقرب من قرية (غرينتش) قرب لندن، في مؤتمر خطوط الزوال المنعقد بواشنطن عام 1884م. ## المسألة الثانية: مكان بدء الشهر القمري: ذهب معدو التقاويم الحديثة إلى اشتراط تحديد مكانٍ ما لبدء الشهر القمري، وقد استدلوا على هذا الاشتراط بقولهم: إنَّه لا بد من تحديد مكان معين ليكون أساسًا لعمل تقويم شهري، وإلا لزم منه أن تكون بداية الشهر القمري متنقِّلة من مكانٍ لآخر بين بدايات الشهور، وهذا لا يصح. ثم اختلفوا في تحديد هذا المكان. وقبل الخوض في هذه الآراء والأدلة عليها لا بد من التوقف عند هذا الشرط وبيان مدى دقته. صحة اشتراط مكان لتحديد بدء الشهر القمري: إنَّ اشتراط تحديد مكان واحد دائم لبدء التقويم القمري غير دقيق، وذلك للأمور التالية: 1 - أنَّ الخطوة الأولى في بدء الشهر القمري وهو الاقتران بين الشمس والقمر والأرض حدثٌّ عام لا علاقة له بمكان محدَّد من الأرض، فقد يكون في شهر موازيًا لنقطة في إحدى البلدان العربية، وفي شهر آخر لنقطة في إحدى البلدان الأوربية، وآخر لنقطة في أحد البحار أو المحيطات، وهكذا. 2 - ثم ما يتبع الاقتران من حدوث الإهلال: لا يكون مرتبطًا بمكانٍ مُحدَّد على سطح الأرض، بل يتنقَّل بين مختلف الأماكن من شهرٍ لآخر. 3 - بالرجوع إلى شروط بدء الشهر القمري: نجد أنَّ هذه الشروط لا تتوافر بشكل مستمر في بلدٍ ما عند بداية كل شهر، بل إنَّ البلدان تتفاوت فيما بينها في تحقُّق هذه الشروط. واتخاذ نقطةٍ معينة مكانًا دائمًا لتحديد بداية الشهر: يُؤخِّر بداية الشهر القمري؛ حيث إن هذه الشروط لا بد أن تتخلف في هذا المكان في أحد الشهور، لكنها ستتحقَّق في مكانٍ آخر قبله. 4 - بالإضافة إلى أنَّ القول بوجوب عدم الاعتبار باختلاف المطالع وتوحيد بدايات الشهور القمرية بين البلدان _كما سبق_ يجعل هذه المسألة غير ذات أهمية، لأنَّ إثبات الشهر في مكان ما هو إثبات لجميع الأرض، وهو ما يُبيِّن أنَّ الأصل إثبات الشهر: تحقُّق بدايته، لا أين يثبت. 5 - لا خشية من عدم انضباط الشهور القمرية، حيث إن الشهر القمري محصور بين اقترانين منضبطين لا يتقدمان ولا يتأخران، وهما سبب انضباط طول الشهر القمري طبيعيًا بين (29) أو (30) يومًا. 6 - من خلال تتبُّع هذه التقاويم يمكن ملاحظة أنَّ معدي هذه التقاويم اقتصروا في تحديد هذه الأماكن على اليابسة، بل على الأماكن المأهولة منها، بينما تحقُّق شروط الشهر القمري لا تقتصر على هذه الأماكن، فقد يمكن أن تحدث فوق أي جزء من الأرض من اليابسة أو الماء، أو في مناطق نائية غير مأهولة. 7 - أنَّ التقاويم التي اعتمدت على اتخاذ نقطة ثابتة لبداية الشهر القمري قد وقعت في مخالفات عديدة لشروط الشهر القمري، كما سيأتي بيانها لاحقًا. ## فالمقترح في تحديد بداية الشهر القمري: أن تكون بداية الشهر القمري غير مرتبطة بمكانٍ محدَّد، ويكون إثبات الشهر القمري في جميع أنحاء الأرض إذا تحققت شروط إثباته في أي مكان، عملاً بما سبق من وجوب توحيد بدايات الشهور القمرية، بغض النظر عن تكرار إثبات دخوله في نقطة واحدة أم لا. الفرق بين تحديد مكان لبداية اليوم والشهر القمري: قد يعترض البعض بقول: إن لبدء اليوم بداية مكانية منضبطة وهي خط التقويم الزمني الواقع شرق الأرض، فلم لا يكون لبداية الشهر القمري خط تقويم معين كذلك؟ والجواب: أنَّ هناك فرقًا في تحديد مكانٍ واحد لدخول اليوم ودخول الشهر القمري: 1 - فسبب بداية اليوم هو طلوع الشمس، وهو أمر منضبطٌ مضطرد في جميع الأمكنة حول الأرض، وخلال اليوم نفسه، أما إهلال بداية الشهر فلا يكون لجميع الأرض، ولا يحدث في اليوم نفسه. 2 - كما أنَّ دخول اليوم يكون بشروق الشمس بشكل متدرج على جميع الأرض، أما الإهلال فإنه لا يكون على جميع الأرض، بل يتفاوت في ذلك. 3 - أنَّ هذا الخط ليس للحكم ببداية اليوم فعليًا، وإنما هو للفصل بين اليوم السابق واللاحق حتى لا يتداخل التوقيت بسبب استمرار تعاقب الليل والنهار. وبهذا يتبيَّن: أنَّه يصح تحديد نقطة معينة لتحديد بداية اليوم لجميع الأرض، بينما لا يصح ذلك بالنسبة لبداية الشهر القمري.
إنشرها

أضف تعليق