رُبَّ ضارة نافعة
جاء الخبر الذي نقلته وكالة ''الأسوشيتد برس'' يوم الجمعة الماضي الموافق 2/10/2012 عن صدور رخصة لبناء مفاعلين نوويين في ولاية ''جورجيا'' الأمريكية بمنزلة مفاجأة لكثير من المراقبين. ذلك أن الولايات المتحدة كانت قد توقفت عن منح تراخيص لبناء مفاعلات جديدة منذ أكثر من 30 عامًا لأسباب عدة كان أبرزها الخلل الطارئ الذي تعرض له نظام التبريد لأحد المفاعلات في ولاية بنسلفانيا في عام 1979، ما أدى إلى ارتفاع درجة حرارته إلى حد كاد أن يتسبب في تسرب إشعاعي، وهو ما يمكن وصفه، لو حصل، بأنه كارثة. وعلى الرغم من نجاح القائمين على ذلك المفاعل في إصلاح العطل والسيطرة على الموقف دون خسائر في الأرواح، إلا أن تلك الحادثة وما تلاها من ردود فعل في أوساط الرأي العام الأمريكي أجبرت الجهات المسؤولة عن إصدار تراخيص مثل تلك المشروعات على التريث في قراراتها.
وكما يقال رب ضارة نافعة، فقد شكّلت تلك الحادثة سببًا ضاغطًا لمراجعة المعايير المطبقة في تصميم، بناء، وتشغيل المفاعلات النووية، ما تطلب إجراء مسوحات دقيقة خاصة لسجلات السلامة لما هو قائم منها. وقد ساهم في تلك المراجعة العديد من مراكز البحث في الجامعات ومختبرات الشركات الصناعية الكبرى المنتجة للمعدات المستخدمة في المفاعلات. كما كانت هناك جلسات استماع مفتوحة في مجلسي الشيوخ والنواب شاركت فيها نخبة من المعنيين باستخدام الطاقة النووية كمصدر لتوليد الكهرباء سواء من كان منهم معارضًا أو مؤيدًا. وقد أسفر ذلك الحراك عن حزمة من الشروط والضوابط الجديدة التي اعتمدتها ''الهيئة الوطنية لتنظيم الطاقة النووية The Nuclear Regulatory Commission، وهي الهيئة التي أصدرت الترخيص المشار إليه في مطلع المقال.
مصدر المفاجأة في ذلك الترخيص هو أنه جاء معاكسًا للمواقف التي تبنتها في الآونة الأخيرة بعض الدول وفي مقدمتها ألمانيا إثر كارثة ''فوكوشيما'' في اليابان قبل عام تقريبًا. تلك المواقف تقضي بوقف بناء مفاعلات نووية جديدة، والتخلص مما هو قائم منها وفق جدول زمني قصير ربما لا يزيد على 20 عامًا، وهي فترة وجيزة لإنجاز تلك المهمة. وقد يجادل المرء في سلامة تلك المواقف التي ربما يراها البعض ردود فعل متسرعة، إلا أن ذلك الجدل غير ذي جدوى أمام تيار شعبي كاسح يطمح في أن يعيش في ''بيئة خضراء'' حتى لو دعا الأمر إلى تأمين حاجته من الطاقة باستيرادها من تلك المنتجة من المفاعلات النووية التي تحتضنها أراضي جيرانه كفرنسا التي تعتمد على ذلك المصدر لسد 80 في المائة من احتياجاتها.
لكن في مقابل تلك السياسات التي يمكن وصفها بالمناهضة لاستخدامات الطاقة النووية لتوليد الكهرباء، هناك إقبال ملموس على بناء مفاعلات جديدة في أسواق رئيسة لاستهلاك الطاقة كالولايات المتحدة مثلاً التي قدمت حكومتها لمشروع ''جورجيا'' وحده ضمانات قروض بلغت قيمتها 8.3 مليار دولار، والمتوقع أن يدخل مرحلة التشغيل في عام 2017.
هناك أسباب عدة لذلك الإقبال، قد يكون من أهمها التحسينات التي أدخلت على تصاميم المفاعلات النووية ومعايير تشغيلها، الزيادة المطردة في الطلب على الطاقة، النتائج المتواضعة لمصادر الطاقة الأخرى البديلة كالطاقة الشمسية، والرياح، وغيرهما.
ولعل من حسن حظ المملكة أن أمامها خيارات واسعة للتعامل مع ملف الطاقة، ومن المنتظر أن تكون من أكبر المستفيدين من تقنيات الطاقة البديلة على المدى الطويل سواء كانت شمسية أم نووية أم غيرهما، لذا ليس من المستغرب أن تبني لنفسها دورًا مؤثرًا في تطوير وصناعة تلك التقنيات، وهو ما تعكف عليه مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة.