التربية بالمكان.. النسق والعمران

يدرك الناس أن المكان يترك أثرا في بناء الشخصية سلبا وإيجابا وقد يستمر أثره طيلة العمر، ولذلك يدرس الطلاب في كليات العمارة والتخطيط مواد تقص هذا الأثر وتبحث فيه، ويتعلم المعماري والمخطط أهمية المكان وتصميمه وتخطيطه لكي يغرس في المجمعات العمرانية معاني تربوية معينة تجعل من الحي والمسكن مكان راحة وأنس ونسق عمراني يساعد على غرس تلك المعاني و يثبتها.
وحينما ينظر المرء إلى مخططات وزارة الإسكان الحديثة والتي ينفذ بعضها الآن يجد أن لا فرق بينها وبين الأحياء القديمة التي صممت في السابق، وأن تخطيطها كما المثل الصيني القائل: إذا لم تكن تعلم إلى أين تذهب فكل الطرق تؤدي إلى هناك!
لقد أتيح للناس اليوم بفضل التقنيات الحديثة والبرمجيات التي تحلق بهم في أجواء أي مدينة أن يطلعوا على ما لدى الآخرين من تخطيط عمراني بديع في الأحياء، على مقياس كبير ويتجولوا في الأزقة والطرقات ومع ''جوجل'' أثير وإبداعات التصوير الثلاثي الأبعاد أصبح بمقدور أي منا أن يطلع على أدق التفاصيل سواء التخطيطية أو التصميمية للأحياء والمساكن، وليتذوقوا الفرق، بينما هم فيه من شوارع متقاطعة كرقعة الشطرنج خططت بشكل جشع في معظم أحيائها ولم يراع فيها الجوانب العمرانية للمجتمع بل تسببت تلك التقاطعات في إزعاج مستمر للمركبات مع تباعد الأنفس، ومحال تجارية على امتداد الشوارع في كل زاوية ورقعة لتكون بؤرة تجمع لكل وافد يجرب حظه العاثر في بلده ليفتح محلا تلو محل ولينتهي قبل أن يرحل بلوحة يكتب عليها (للتقبيل).
إن بإمكان أي منا أن يتخيل لو أسند هذا العمل ليس لأصحاب العقار بل إلى مخططين ليضعوا فيه ما بحثوا فيه أعمارهم ليخرجوا لنا مخططات للأحياء ترعى كل معنى جميل وتهتم بالإنسان لا بالمركبة وتضع الأولوية لغرس القيم في سكان الحي على التعاون والمشاركة والترفيه والتعلم، وهي التي يمكن لكل مخطط أن يضع أسسها ويضمن للمجتمع نتائجها، هذا على المقياس الكبير والتخطيط، أما المقياس الصغير في داخل المسكن فهو مجال آخر للإبداع في غرس معان كثيرة جدا.
إنه لابد أن يتاح للمعماري أن يغرس بعضا من تلك المعاني التربوية التي يريد أن يغرسها المرء في أبنائه. ويمكن القول إن التصميم المعماري يمر عبر مراحل متعددة أولها أن يتخيل الشخص ذلك المكان الذي يرغب أن يعيش فيه وليس بالضرورة أن يكون مفصلا ومن ثم يبث ذلك الخيال للمصمم لتكون المرحلة التالية من العمل الجاد من قبل المعماري في إبداع عمل مناسب لذلك الخيال، ومن ثم تأتي المرحلة التي تليها وهي الاتفاق سويا على وضع ذلك على شكل مخططات مرسومة، وبعدها تأتي المرحلة الأخيرة وهي البناء والتنفيذ لذلك العمل.
ولذا فإنه يمكن لنا أن نسرح بالخيال ونخرج عما ألفناه قليلا من أن يكون مجلس ـــ صالة ـــ طعام ـــ مطبخ ـــ إلى أفق، نعرف كل مكان لماذا نصممه لهذا المكان وماذا سيضيف من معنى، وأن يرسم المرء سيناريو لحياة أفضل في مسكن يتم فيه التركيز على القيم والإبداع وأن الفراغ يربي المرء إن هو أحسن تصميمه، وليكون المسكن يربي ساكنيه على المعاني والقيم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي