Author

سحر الأرقام وخداعها!

|
يطرب الجميع ويسعد بسماع أرقام الإنجازات ونسبها المئوية، خصوصاً إذا قيل إنه كان لدينا قبل كذا سنة عدد من الفصول الدراسية أو المستشفيات أو غيرها من عناصر الخدمات ومبانيها العامة، وقد ازدادت لدينا ليصبح عددها الآن أكبر بنسبة مئوية معينة. إن مثل هذا الطرح في وسائل الإعلام يعد طُعماً يسهل بلعه من قبل كثيرين على أنه حقائق دامغة للإنجاز الذي تم أو تحقق، خصوصاً أنه كما يقال: ''الأرقام لا تكذب''. ولكن الحقيقة خلاف ذلك، فالأرقام المجردة لا تكذب في ذاتها، ولكنها تخدع في سياقها، فزيادة عدد نوع من الخدمات العامة أو المباني الخدمية ليس دليلاً كافياً على الإنجاز؛ لأن الإنجاز الحقيقي يجب أن يربط بنسبة توافر تلك الخدمة لعدد المستخدمين المستفيدين منها في الفترة السابقة، ونسبة توافرها لعدد مماثل أو أقل من المستفيدين حتى تصبح تلك الأرقام دليلاً على الإنجاز. وسأمثل على ذلك بمثال: لو كان عندنا مدينة عدد سكانها قبل 20 عاماً (500 ألف نسمة) وفيها خمسة مستشفيات تحوي ما يقارب (1500 سرير)، وقد زاد عدد سكان المدينة ليصبح (أربعة ملايين نسمة) خلال 20 عاماً، وازداد عدد المستشفيات ليصبح 15 مستشفى تحوي ما يقارب (ستة آلاف سرير)، فهل زيادة عدد المستشفيات من خمسة إلى 15 دليل على الإنجاز، خصوصاً أن 15 تمثل ثلاثة أضعاف عدد المستشفيات قبل 20 عاماً في المدينة نفسها؟ إن الإجابة عن السؤال السابق تكون بلا؛ لأن تلك الأرقام ليست دليلاً على الإنجاز، وإنما دليل على التدهور في الخدمات الصحية في المدينة، فقبل 20 عاماً كان هناك (30 سريراً) لكل (عشرة آلاف نسمة من سكان المدينة)، واليوم أصبح هناك (15 سريراً) فقط لكل (عشرة آلاف نسمة)، إذاً هناك تراجع كبير في الخدمات الصحية يصل إلى النصف. وقسْ على هذا المثال لمعرفة مدى التطور أو التدهور في الخدمات وتوافرها، بعيداً عن سحر الأرقام المجردة وخداعها. كما أن هناك عاملاً آخر - ذا أهمية بالغة - في قياس مستوى الإنجاز، ألا وهو مستوى الجودة فيما تم توفيره من خدمات أو مبانٍ عامة، خصوصاً أن مستوى الجودة أمر زئبقي يصعب إدراكه أو قياسه من غير معايير قياس واضحة ودقيقة. فهل مطبخ مبنى فيلا سكنية قديمة - يزيد عمرها على 30 عاماً - والذي حشر فيه ما يقارب 40 طالباً أو طالبة دون إضاءة أو تهوية طبيعية جيدة وكافية يعد نموذجاً للفصل الدراسي الذي يمكن إدخاله ضمن أرقام الإحصاءات الدالة على الإنجاز؟ لذا يلزم الحذر في مجال الإسكان كذلك من سحر الأرقام في التصريحات التي تتحدث عن عدد عقود التصميم أو التنفيذ التي تم توقيعها، والمشاريع التي تم ترسيتها أو انتهاؤها. فالأسئلة الأهم هي: ما نسبة ما تم إنجازه من مجمل ما هو مطلوب في كل منطقة من المناطق؟ وهل تمت مراعاة المتغيرات الاجتماعية للسكان واحتياجات الأسر السعودية ومتطلباتها في هذه المشاريع؟ وهل تمت العناية بقضية الاستدامة الاجتماعية والبيئية والاقتصادية فيها؟ وهل تمت مراعاة خفض استهلاك المياه والطاقة الكهربائية في الوحدات السكنية؟ وهل تمت الاستفادة من تقنيات البناء التي تسرع عملية التنفيذ، وتخفض التكلفة، وتزيد من العمر الافتراضي للمسكن؟ وهل؟ وهل؟ وهل؟
إنشرها