مع بداية كل سنة مالية، يتسمر أفراد الأسر السعودية حول شاشات التلفاز الرسمية، تحركهم رخامة صوت مذيع النشرة البالغة التأثير، والمعبرة عن أهمية الخبر وما يتضمنه من بنود وقرارات تمس شؤون حياتهم. هكذا تبدو الصورة المختلطة ما بين حجم العاطفة والأمل في غد أفضل، وما بين طبيعة القرار وما يحمله من أرقام يفترض بها أن تكون مفرحة على الأرض. البعدان النفسي والعاطفي اللذان تشكلهما الميزانية العامة للدولة على الإنسان السعودي، يأخذان الحيز الأكبر في انعكاساتها المباشرة، عطفا على لغة التحليل والتداول الخبري عبر الوسائل التقنية ومواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي اختلفت في ظله معايير التعاطي مع تفاصيل الميزانية عن السابق، على اعتبار أن مستوى الفهم لم يعد مقتصرا على المتخصصين في مجال الاقتصاد، بل تنامى بدرجة كبيرة بين مختلف شرائح المجتمع، فالابن يسأل والده عن رأيه فيما أقر من ميزانيات، وإن لم يستطع الأب الإجابة، بحث عنها بكل اجتهاد حتى يجدها، لتتشكل أولى لبنات الوعي. وفي مقدمة الدعامات الأساسية للاقتصاد السعودي، تبرز الثروة النفطية كعنصر كامن في أذهان المواطنين، تعزز في داخلهم الثقة المطلقة بقوة اقتصادهم ورغد عيشهم بالضرورة، ناهيك عن الصناعات النفطية التكميلية، وقطاعات اقتصادية أخرى، تشكل في مجملها السقف الأعلى لأمنياتهم وحجم تطلعاتهم. وتتفاوت الآمال المعلقة على الميزانية، لتتجاوز حجم الأرقام المعلنة بمراحل، كون الطموحات تكبر وتتعاظم بمرور السنوات، فضلا عن تطور النمط المعيشي للمواطنين، ما يوجب تحولا نوعيا تظهر معالمه في الحس الشعبي العام، مقرونا بنسب معدلات الجريمة وحجم الإنتاجية الفردية والجماعية، إضافة إلى حالة الاستقرار الاجتماعي، ونمو أعداد السكان. يقول الدكتور علي الزهراني الأستاذ في جامعة الطائف إن الميزانية أصبحت هاجسا للجميع على اعتبار أنها تحمل في طياتها الخير الكثير، خاصة أن المواطن في السنوات الأخيرة ارتبط في مخيلته تضاعف أرقام الميزانية في عهد الخير والنماء, إلا أن ما يهم الإنسان العادي هو توافر منزل متواضع بحيث يتم إيصال كل الخدمات التي تضمن له حياة كريمة مع راتب شهري مجز, مؤكدا أن هذا هو منتهى ما يطمح إليه المواطن, وهو أمر سيجعله يعيش متوافقا مع نفسه ومع المحيطين به. بدوره قال المواطن علي آل عكران إنه في كل عام تأتي ميزانية الخير بفائض كبير وفقا لما تتضمنه من مشاريع ضخمة، إلا أن المحصلة لذلك كله هو تعثر تنفيذ كثير من تلك المشاريع، يقابله تضخم في أسعار السلع سواء المتعلقة بالبنيان والإنشاءات، أو السلع الأخرى الاستهلاكية والتموينية، فضلا عن التباطؤ الشديد والبيروقراطية المستمرة في تفعيل القرارات الحيوية المباشرة والمؤثرة في حياة الناس، مستدركا أن العملية الاقتصادية برمتها تتمحور حول الفرد «الإنسان»، كمحرك لوتيرة النماء والتطور، بحيث تحدد أهداف الخطط الاستراتيجية على هذا الأساس، وصولا إلى حالة التكامل المنشود، وبناء قاعدة اقتصادية متينة، من شأنها أن تضمن رفاهية المواطن وتحسن أوضاعه المعيشية والاجتماعية. ولفت آل عكران إلى أن اتساع الفجوة بين المستوى المعيشي المرتفع ومستوى دخل الفرد، ألحق الضرر بالعملية الاستهلاكية، في ظل غياب الوعي من قبل المواطنين، وعدم إدراكهم حقيقة أوضاعهم المالية الشخصية، ومن ثم تحديد نوع المتطلبات التي تتلاءم مع إمكانياتهم دون الحاجة إلى الاقتراض أو تحمل أعباء مالية أخرى قد لا يتمكنون من الوفاء بها في موعدها. ويعود الدكتور علي الزهراني إلى القول إن الناس في هذه الأيام لم يعودوا كالسابق يهتمون بالمشاريع الحكومية على اعتبار أن الأداء والمحاسبة للمشاريع والمقاولين تقهقر لدى بعض الوزارات، مما سبب عدم ثقة بين المواطن والمسؤول, فضلا عن أن بعض الناس أصبح يتساءل عن الفائدة من تضاعف أرقام الميزانية ما دام أن التاجر يسرح ويمرح دون حسيب أو رقيب، مشيرا إلى أن هذه الأرقام بقدرة قادر سوف تعود إلى «جيب» التاجر, هذا التاجر الذي لم يقدم لبلده سوى الفتات، فالجميع يتمنى أن يصاحب هذا الخير، الضرب بيد من حديد على يد التجار بحيث يحافظون على خيرات البلاد والإسهام في التطوير, بل إن الدولة مطالبة بالضغط على التجار للمساهمة في المشروعات الحكومية والخيرية. وتظل المعادلة الكبرى هي في القدرة على التوفيق بين معطيات الميزانية وما يلمسه المواطن بشكل مباشر في حياته اليومية، بحيث لا يوجد شبان يبحثون عن العمل لسنوات بعد تخرجهم في الجامعات دون الحصول على فرص، رغم أنهم عاشوا تفاصيل الميزانية المبهجة وتفاعلوا معها من خلال صوت مذيع النشرة الإخبارية وصورته، وبنو أحلامهم الوردية وعاشوا في دائرتها لسنوات، يتخيلون صورة المذيع في كل لحظة يطرقون فيها باب الرزق، ولا يوجد آخرون يتخيلون صورة المذيع في أروقة المستشفيات والمرافق الصحية، ويقارنون الأرقام المخصصة لها، بما يرونه أمامهم من خدمات طبية، كما لا يوجد آخرون يتخيلون صورة المذيع أمام أبواب الجامعات والكليات العسكرية، وصناديق التنمية العقارية والزراعية، وفروع وزارة الشؤون الاجتماعية، ومرافق أخرى تنموية. المسألة إذن انتقلت من نطاق «التنظير» المعلن إلى دائرة «الممارسة» العملية، حيث العمل يقترن بالنتائج دائما، والخطط تلبي الحد الأدنى من الاحتياجات في حدود الممكن مع إمكانية البحث عن تجاوز «المستحيل» عبر تخطي المعوقات، ووضع «المواطن السعودي» في قلب المعادلة، انتصارا للحياة في داخل الوطن، والرقي بمستوى إنسانه.
