هل نظام الموازنة الحالية صالح لاقتصاد بحجم اقتصاد السعودية؟

القراءة التحليلية لموازنة السعودية الأولى التي بدأت في غرة شعبان 1350 من الهجرة توضح أنها جاءت بصورة متواضعة، سواء في حجمها الذي قدر بمبلغ 106.442.544 قرشا أميريا. (يعادل 1.1 في المائة من الجنيه الاسترليني الذي يعدل عشرة ريالات عربي، والريال يعادل 11 قرشا أميريا، وهو ما يعادل في قيمته الحالية 10.644.254.4، عشرة ملايين وستمائة وأربع وأربعين ألفا ومائتين وأربعة وخمسين ريالا وأربعين هللة). أو في أسلوب عرضها الذي اقتصر على جدول إجمالي النفقات دون الإيرادات. ورغم أن الموازنة جاءت دون ذكر لإيرادات الدولة، فقد كانت الإيرادات تأتي من مصادر محلية متواضعة جدا كزكاة الزرع والمواشي، ضريبة الجهاد، الضرائب على شركات الملاحة، رسوم الطوابع، حق الحكومة من الشركات صاحبة الامتياز... إلخ. وبدأت حصة المملكة في إنتاج الزيت تزداد بعد توقيع اتفاقية الزيت بتاريخ 4/2/1352هـ، بأن تدفع الشركة المنتجة للحكومة ريعا عن كل طن من الزيت الخام أربعة شلنات ذهبية. ورغم بدائية أسلوب عرض الموازنة، إلا أنها أكثر شفافية ووضوحا من الموازنة المعمول بها الآن. وتطورت موازنة المملكة من سجل لا يرتكز على أساس واحد في التصنيف بقدر ما يظهر نفقات حكومية غير منتظمة إلى موازنة مكتملة الأركان في هيكلها الفني، متخذة موازنة البنود أساسا لبنائها، ورغم ما يؤخذ على موازنة البنود من ملاحظات، حيث اهتمامها في كثير من الحالات بالإجراءات الشكلية للرقابة وليس بالإدارة الحقيقية للموازنة، وما فيها من ثغرات لهدر المال العام، إلا أن حجة المتمسكين بها والدفع بعدم الأخذ بالاتجاهات الحديثة المطورة لأنظمة الموازنات العامة، وهو ما أخذت به الدول المتقدمة كموازنة البرامج والأداء، هو البساطة والبدائية التي تدار بها موازنة البنود.
إن التطور المالي والاقتصادي الذي تشهده السعودية، ولا سيما بعد أن صنف اقتصادها الأكبر في منطقة الشرق الأوسط بعد أن أصبح حجمه يعادل نحو 45 في المائة من حجم الاقتصاد العربي والأكبر على مستوى العالم الإسلامي، وهو ما رشح المملكة لأن تنضم إلى نادي مجموعة العشرين. هذه التطورات لا بد أن يواكبها إدارة اقتصادية أكثر فاعلية، وتطوير النظام المالي والنقدي ولا سيما نظام الموازنة إلى المستوى الذي يتناسب مع قوة ومتانة وحجم الاقتصاد السعودي. إن الأخذ بنظام موازنة البنود والذي يسميه عدد من المتخصصين في المالية العامة (ميزانية مسك الدفاتر)، كان مبررا عندما كان حجم موازنة المملكة في حدود عشرة ملايين ريال، وهو ما يعادل حجم رأس مال بقالة متوسطة الحجم، أما وقد تطور حجم الموازنة من 10.644.254.40 ريالا عام 1352هـ إلى 580.000.000.000 مليار ريال عام 1433هـ، مع وجود شباب سعودي يحمل أعلى الدرجات العلمية ومن أرقى الجامعات العالمية في الاقتصاد، والمالية، والمحاسبة. إن الإمكانات المالية والتنظيمية والبشرية المتاحة تساعد على ضرورة إجراء تغيير جذري من موازنة البنود والاستفادة من التطورات الحديثة لاتجاهات الموازنة في ظل نظامها للأداء ثم البرامج.
وبمقارنة مزايا النموذجين نرى أن بعض المختصين كميكائيل بابونكيز ناقش أنواع الموازنات في كتابة بعنوان: Budgets An Analytical and Proceddural وتوصل إلى أن مساوئ موازنة البنود تزيد على فوائدها للأسباب التالية:
1- إن موازنة البنود تعمل في إطار زمني محدد هو السنة الواحدة، دون النظر إلى التخطيط طويل الأمد؛ مما يبعد الموازنة عن الاهتمام بالفعاليات والمشروعات بعيدة المدي. (هدف تنويع مصادر الدخل).
2- صعوبة ربط هذه الموازنة بأهداف الحكومة وكما لا يمكن ربط النفقات بالمعطيات التي تحققها هذه النفقات.
3- اعتماد قرارات موازنة البنود على المعطيات التاريخية ولا تعتمد على حصيلة نظام البيانات الذي يمكن استخدامه لأغراض تقييم بدائل خيارات العمل.
4- اعتماد أعداد الموازنة السنوية على الموازنة السابقة كمقياس للموازنة القادمة، وعدم الاهتمام بالتحليل الخاص للمؤشرات المستقبلية في مجال الإنفاق أو الإيراد إلا بشكل محدود.
5- تركز موازنة البنود على متطلبات الحاجات السنوية، وتتجنب عادة حاجات البرامج المستقبلية التي لا يمكن النظر إليها على مدى سنة واحدة.
6- يشجع نظام موازنة البنود الإدارات على التنافس في حجم الطلبات ودون النظر إلى أولويات الحاجات على المستوى العام.
7- انفراد كل إدارة بعملها دون تنسيق أو ارتباط مع الإدارات الأخرى، مما يسفر في الغالب عن ازدواجية في الأعمال الحكومية نتيجة غياب النظرة الشمولية لتخطيط الأعمال وبرمجتها.
ومع ضعف أجهزة الرقابة، فإن موازنة البنود من الهشاشة، حيث يمكن أن تستغل للتلاعب بالمال العام، أو أن تتم عملية اتخاذ القرار أثناء مناقشة أو تنفيذ الموازنة بناءً على عوامل غير موضوعية، فقد يتم تأجيل مشروع حيوي ومهم وترحيل الأموال المخصصة له إلى مشاريع أقل أهمية، ويعود السبب في ذلك إلى اعتبارات متعددة داخل إطار المساومة والتدخلات الضاغطة. أضف إلى ذلك أن موازنة البنود تركز على أن المبالغ المعتمدة قد صرفت على الأنشطة التي خصصت لها بغض النظر هل تحقق الهدف من ذلك أم لا!! وهذا ما يساعد على هدر المال العام، ولا سيما أن نظامها يدفع المؤسسات الحكومية على صرف الأموال المخصصة لها قبل انتهاء السنة المالية بغض النظر عن جدوى الصرف، وكل هذا من أجل ألا يتأثر حجم ما يخصص في موازنة السنة القادمة المبني على حجم ما تم صرفه.
إن من أهداف الموازنة العامة تعزيز النمو الاقتصادي، وتشجيع استخدام الموارد بكفاءة، والمساهمة في إحداث التغييرات الهيكلية المطلوبة اقتصاديا وتعزيز عوامل الإنتاج وإزالة المعوقات التي تحد فاعلية عمل الأدوات الاقتصادية، وتشجيع نمو الطبقة الوسطى التي يعتمد عليها نمو الاقتصاد إلى حد كبير، والمساهمة في حل مشكلة البطالة ، والحد من التضخم. إن نجاح الموازنة يقاس أيضا بالقدر الذي تسهم فيه النفقات في خلق فرص عمل جديدة، وبالتالي فإن الحكم على كفاءة أداء الموازنة يتعلق بمدى ما تحقق من تلك الأهداف. ومن قراءة واقع الخريطة الاقتصادية للمملكة نجد أن أغلب تلك الأهداف لم يتحقق؛ فالبطالة في ارتفاع مستمر، والتضخم في تزايد، واختناق الخدمات كالتعليم، والصحة، والمواصلات محل تذمر المواطن والمسؤول.
لقد وصل حجم الموازنة العامة، كما ورد أعلاه، إلى أرقام لم يسبق لها مثيل، بل أن ميزانية وزارة النقل مثلا، تعادل تقريبا ميزانية إحدى الدول المجاورة، ورغم كل هذه الإمكانات المالية المتاحة والضرورية لجهود التنمية، إلا أن الواقع دفع المواطن إلى حالة من التذمر والإحباط، محملا المسؤولية على إدارة الموازنة التي ثبت عمليا أنها تلعب دورا لا يقل أهمية في التأثير على كفاءة وفاعلية الإنفاق.
ونظرا لأهمية نظام الموازنة لتفعيل إدارة المال العام، حيث إن نظام موازنة البنود هو المعمول به في المملكة، وإضافة إلى ما ذكر أعلاه من سلبيات، فإنها لا تساعد على التحليل الاقتصادي للمشاريع التي تنفذها الجهات الحكومية، ولا تشتمل على معايير لقياس كفاءة وفاعلية الإنفاق العام رغم أهميته. ولا سيما أن من أسباب الزيادة في عجز الموازنة في الربع الأخير من القرن الماضي والذي استمر نحو 20 عاما واضطرت الحكومة إلى الاقتراض حتى بلغ حجم الدين العام 104 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 1999، يعود جزئيا إلى خلل هيكلي في نظام ميزانية البنود الذي لا يعير اهتماما لكفاءة وفعالية الإنفاق العام. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتطوير موازنة البنود إلى موازنة البرامج والأداء.
إن النقلة الكبيرة لاقتصاد السعودية إلى أن أصبح أكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط؛ مما رشح المملكة للحصول على عضوية نادي مجموعة العشرين، يتطلب تطوير نظام الموازنة بما يتناسب مع حجم الاقتصاد. إن نظام موازنة البنود أو ما يسمى (موازنة مسك الدفاتر) نظام لا يتناسب مع اقتصاد بحجم اقتصاد السعودية، ولا يرقى إلى إدارة وتفعيل الموارد المالية المتاحة لتحقيق نمو اقتصادي يتناسب مع حجم الإنفاق، وتحقيق السيطرة على ظاهرتي البطالة والتضخم، ناهيك عن تحقيق أهم أهداف الخطط الخمسية للتنمية وهو تنويع مصادر الدخل، رغم استهدافه منذ أكثر من أربعة عقود؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي