ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته!
إذا أوصلتك خطاك إلى ورش أعمال الألمنيوم والحديد في أي مدينة تدرك أن أي شيء لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته، وأن هناك كماً هائلا من هذه الورش تعمل نفس الخطوة التي تعمل بها الأخرى، وأننا ما زلنا نراوح في مكاننا مع أننا لو خطونا خطوة إلى الأمام لوصلنا، إذ إن بداية الألف ميل خطوة، كما يقال في المثل، وهذه الخطوة هي في الحقيقة تعد مقياسا نعرف من خلاله مقدار التقدم الذي تم تحقيقه وهل أوشكنا على النهاية أم لا.
واليوم تشهد المملكة نهضة عمرانية كبيرة في جميع المجالات والميادين لكن المؤلم أننا في مجال العمران لا نزال نراوح مكاننا مع التقييس (Standardization)، مع أن نتاجنا العمراني هو الأضخم في المنطقة العربية، وأن خطوة واحدة من الألف ميل لم تخط في هذا الاتجاه لم تبذل الجهود في خطوها، ولم يتم تقييس أي شيء في المباني خصوصا تقييس العناصر المعمارية للفلل السكنية للمواطنين.
فمن هو يا ترى الذي يبدأ هذه الخطوة المهمة في التقييس وليس المقاييس وهناك فرق كبير بينهما؟
هل هي الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس؟
أم أنها وزارة الشؤون البلدية والقروية التي تضع الشروط الاشتراطات العمرانية للمباني والشوارع وغيرها؟
أم أنها وزارة التجارة والصناعة التي قبل أن تصرح للمصنع لابد أن تعتمد لها جملة من التقييس الذي يصنع.
أم هي وزارة العمل التي ترفض أن يتم استقدام عمالة بهذا الحجم دون وضوح لما سيتم صناعته من عناصر عمرانية؟
أم أخيرا هي المكاتب الهندسية التي تضع في تصاميمها عناصر مقييسة؟
إن التقييس في العمران هو منظومة واسعة وعمل كبير يتطلب تضافر جهود وورش عمل لصناعة تعمل على وقف الهدر والنزيف الذي يتم الآن، حيث معظم عمراننا غير مقيس ولست هنا أعنى المواصفات والمقاييس التي تنفذ بها الأعمال بل هو توحيد القياسات لبعض العناصر المعمارية وتلتزم به الشركات العاملة في صناعة البناء والمصممون ومما يحقق لنا أمرين مهمين في هذا المجال الحيوي:
الأول: أن تكون العناصر المعمارية متوافرة في الأسواق وأن المصانع التي تنتج هذه الأشياء لها مصانع بعيدة عن العمران لكن منتجاتها المقيسة هي التي في الأسواق في متناول اليد قبل بدء أي مشروع يمكن لك أن تختار أيا منها في المبنى مما يكون سببا في اختصار الزمن الذي يستلزمه العمل لتلك العناصر ويؤدي بدوره إلى اختصار مدة المشروع، بدلا من تصنيعها واحتساب مدة انتهاء العمل فيها كجزء من برنامج المشروع الزمني والذي يمكن أن يتسبب في تأخير المشروع.
الثاني: أن تكون هذه العناصر المعمارية قد تم عمل الاختبارات اللازم لها من خلال إرسال عينات تعتمد داخليا وخارجيا حتى يتم التأكد من مطابقتها للشروط والمواصفات والكود السعودي الذي تم العمل فيه بما يضمن لنا جودتها قبل التركيب وبعده لا أن تكون هذه العناصر تختبر في الموقع مما يتسبب في أغلب الأحيان في تأخر استلامها أو إعادة تصنيعها مرة أخرى لعدم اجتيازها الاختبارات اللازمة.
وأن التقييس يصب في المصلحة العامة، من خلال تقليل الهدر الناتج من استخدام المواد الخام، فإذا عرفت المقياس الذي تعمل فيه استطعت أن تعمل على ضبطه إدارته وجودة؛ إذ إن أي شيء لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته وأننا في هذا الاتجاه نستورد فقط المواد التي تستخدم هذه المصانع التي تعمل على ضبط الخزون لمعرفتها حاجة السوق والكمية التي يحتاجها لا أن تملأ مخازن مواد البناء بما لا يمكن لك أن تتخيل ما نحتاج إليه منها، وإذا تم إدارة الاستيراد يعمد هذه المصانع إلى تصدير المنتجات التي تناسب الأسواق الأخرى وتنافس في صناعة سعودية متينة. وعلى الجانب الآخر فإن التقييس يعمل بشكل رئيس على تقليل العمالة الوافدة التي تديرها وزارة العمل والتي اليوم تملأ الآن الورش الصناعية لعمل عناصر المعمارية غير مقيسة.
ولعلي أضرب لذلك مثلا حتى يتضح المقال فمثلا الأبواب وهي عنصر معماري يجب أن يوحد قياسه في المباني عموما.
فالأبواب تختلف قياساتها باختلاف الفراغات كغرف النوم ودورات المياه وغيرها، ولكن يفترض أن يكون كل نوع مقيسا، بمعنى أبواب غرف النوم ذات قياس موحد 90 سم مثلا، وأن تكون هذه القياسات لكل الأبواب في كل المباني في كل الأحياء في كل المدن، ولكن ما هو موجود الآن أن كل باب في كل فيلا يختلف عن الآخر وإن كان نفس الفراغ!!. ولهذا نجد أن كل فيلا تحتاج إلى تصنيع خاص لكل باب وتتطلب مصنعا يصنع لها أبوابها الخاصة.
إننا إذا وحدنا القياسات فإننا سوف نستغني عن آلاف الورش وآلاف العمالة التي تعمل فيها مما يوجد منافسة ونمطا عمرانيا مقيسا وبما يضمن جودتها ويقلل تكلفتها في النهاية.