الكل له الحق في الابتعاث إلا موظفي الخدمة المدنية؟

تكلم الكثيرون عن موجة التعليم العالي وبرامج الابتعاث والفرص الذهبية التي يتمتع بها المواطنون في هذا العهد الزاهر، وكل أدلى بدلوه في هذا الاتجاه وكان لي نصيب وافر من التعليق والمدخلات في عدد من اللقاءات والمنتديات، كما بينت وجهة نظري في عدة مقالات أثناء انطلاق الدفعات المبكرة لبرنامج الابتعاث.
وهنا لن أعود وأكرر ما ذكرته من قبل، فالتكرار لا يفيد كثيرا في مثل هذه الأمور ولكنني أريد أن أظهر على السطح شريحة مهمشة مدفونة قيدتها إجراءات نظام الخدمة المدنية الجائرة ويد البيروقراطية المقيتة ولم تمكنها من الاستفادة من فرص الابتعاث ومواصلة التعليم العالي رغم جديتهم ومحبتهم لأعمالهم ورغبتهم في تحقيق ذاتهم وقدرتهم في مواصلة دراستهم، وأعني بذلك موظفي الخدمة المدنية والمؤسسات العامة المشابهة خصوصا أولئك المثابرين الناجحين الذين مكثوا سنوات في منظماتهم ويرغبون في صقل خبراتهم ببرامج أكاديمية، ونظريات علمية، ونماذج معرفية.
الكل استفاد من برنامج الابتعاث ومن موجة التعليم العالي إلا هؤلاء الصفوة، وأريد هنا أن أعرض معاناتهم وأصور لكم الأغلال التي في أعناقهم وطريقتهم في تحقيق ذاتهم وتضحياتهم في سبيل تعويض ما فاتهم ومحاولتهم الحصول على فتات التعليم في مؤسسات تعليمية لا تليق بقدراتهم أو أخرى وهمية أخذت كل مدخراتهم.
نحن نتساءل لماذا يفرض نظام الخدمة المدنية القيود على ابتعاث موظفي الدولة ويقيد إبداعاتهم بشروط مبالغ فيها؟ فالموظفون الحكوميون لديهم مصدر ابتعاث هزيل يمر بقنوات طويلة وبدهاليز معقدة هدفها المبطن إبطال كل من تسول له نفسه طلب الدراسة والابتعاث من الموظفين. فالموظف الذي يرغب في الابتعاث عليه أن يثبت أمام مجلس الخدمة المدنية مقدرته في اللغة الإنجليزية بتقديم الاختبارات الدولية مثل ''التوفل'' أو نحوه رغم أن أعضاء المجلس يعلمون أن فرص تعلم اللغة الإنجليزية محدودة جدا أمام موظفي الدولة. ولو افترضنا وتحقق للموظف ما يثبت ذلك فعليه أن يبدأ بالحصول على قبول من جامعة معترف بها وموصى بها من الملحقية الثقافية السعودية ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي موافقة جهة عمله، وهنا على الموظف أن يجيد التملق وبذل ماء الوجه حتى يقنع رؤساءه بأهمية الابتعاث ناهيك عن تقديم ضمان مالي للجامعات حتى يحصل على قبول والذي لن تمنحه جهة عمله حتى توافق مبدئيا على فكرة الابتعاث فيقترض من البنك ويودع المبلغ في حسابه ليتمكن من الحصول على ضمان بنكي يقدمه للجامعات الأجنبية لترسل له الموافقة على الدراسة. وعندما ينجو من كل هذا تأتي قاصمة الظهر فقد بلغ 40 عاما وموظفو الدولة الذين يرغبون في الابتعاث يجب ألا يزيد أعمارهم على 40 عاما فيقف هنا حائرا مذهولا وهو يسأل نفسه ما علاقة الـ 40 عاما بصقل الخبرة وزيادة المعرفة؟.
كما أن برنامج الابتعاث الأخير قد ساهم هو أيضا في تهميش موظفي الدولة ومساواتهم وقتل طموحاتهم. فالبرنامج يشترط لمن أراد أن يبتعث وهو موظف أن يضحي بمصدر رزقه ولقمة عيشه وعليه أن يرحل مع عائليه كطالب مبتعث يعيش هو أسرته على مكافأة مقطوعة لا تسمن ولا تغني من جوع لمدة خمس أو سبع سنوات. وبعد عودته عليه أن يصف بالمؤهل الذي حصل عليه في طابور البطالة، فأصبحت الشهادة وبالا عليه. هل من المعقول أن يفرط المواطن بوظيفته التي يعلم علم اليقين أنه لن يجد عوضا عنها ولو حصل على مؤهل جامعي أو فوق الجامعي؟ ولهذا فهو يتبع المثل القائل ''عصفور في اليد خير من ألف على الشجرة''، فيؤثر الوظيفة على الشهادة وله الحق في ذلك، فأزمتنا أزمة وظائف وليست أزمة تعليم.
وبناء على هذه الحواجز المفتعلة التي تقف سدا منيعا أمام ابتعاث وتدريب موظفي الدولة نراهم يفرون إلى أقرب طريق وأسلم مكان لتعويض ما فاتهم خائفين يترقبون وعلى حسابهم الخاص. فيقطعون مئات الكيلومترات يوميا ذهبا وإيابا إلى المؤسسات التعليمية التي تمنح الشهادات العليا ولو كانت غير معترف بها. وإنني أراهم يجوبون أطوال البلاد وعرضها بعد ساعات العمل اليومية ينتظمون في قاعات البرامج الأكاديمية يأتون وهم منهكون مغلوبون محاصرون على حساب أهليهم وأبنائهم ومصالحهم من أجل الظفر بدرجة علمية يرفعون بها أسماءهم، ويخلدون بها ذكرهم، ويزيدون بها من معرفتهم، ويعوضون بها شيئا مما فاتهم.
والسؤال الغائب الحاضر: لماذا لم تطل موجة الابتعاث الأخيرة موظفي الدولة؟ فالابتعاث وقفا لكل مواطن إلا موظفي الخدمة المدنية فمن أراد منهم الابتعاث فما عليه سوى تقديم استقالته. لماذا هذا الحكم الجائر؟ لماذا لا يتم التنسيق بين برنامج الابتعاث وبين مؤسسات الدولة لتمكين هؤلاء الجهابذة المكافحين المرابطين من مواصلة تعليمهم وتحقيق أحلامهم؟ ولماذا لا تدعم إدارات الابتعاث والتدريب بمبالغ مالية لدعم برامج الابتعاث وإزالة العوائق والإجراءات التعسفية التي تئد طموحاتهم وتقتل مواهبهم.
وأريد أن أختم فأقول لجهات التدريب والابتعاث في جميع مرافق الدولة ومجلس الخدمة المدنية الموقر إن عليهم وضع آلية لتمكين من يرغب من موظفي الدولة ومن هم على شاكلتهم من مواصلة تعليمهم ومنحهم فرص ابتعاث دون مقايضتهم بوظائفهم ومصادر أرزاقهم، فأنا والله رأيت ما لم تروا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي