تزوير الشهادات.. آلية من القطاع الخاص

حظي مقال الأسبوع الماضي (من يشترون الشهادات؟!) بالعديد من التعليقات في الموقع الإلكتروني للجريدة، كما تلقيت اتصالات هاتفية من قراء وأصدقاء سعدت بأنهم يتابعون مساهماتي المتواضعة في صفحة الرأي. كان هناك شبه إجماع على أن دائرة العبث بالشهادات الأكاديمية قد اتسعت، كما أن القيم الأخلاقية التي يُعول عليها عادة في المجتمع لضبط الكثير من سلوكيات أفراده تراجعت إلى الوراء بشكل مؤسف في وقت نحن في أمس الحاجة إليها. بعض القراء تناول نماذج من التجاوزات والتحايل الأكاديمي أفرزت لنا بعضا من أصحاب الشهادات العليا الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة كتاب واحد في مجال تخصصهم.
وكنت قد ذكرت في مقال سابق أن تلك التجاوزات ليست قضية شهادات مشكوك في سلامتها فحسب بل هي قضية سلوك يبقى مع الفرد ما تُرك دونما أحد يرده إلى جادة الطريق. وقد أشار عدد من المتصلين من القراء إلى أن ذلك السلوك يكتسبه الإنسان في مرحلة مبكرة من العمر، كأولئك البعض الذين يستهلون مسيرتهم التعليمية بشهادات صحيحة التواقيع صادرة من مؤسسات تعليمية لها كيان على الواقع إلا أن حيازتهم لتلك الشهادات جاءت من الأبواب الخلفية، وينتقل ذلك السلوك إلى الحياة المهنية محدثا أضرارا بالغة في المجتمع يصعب إصلاحها. ومن المؤسف أن يدفع المجتمع ثمناً غالياً لسكوته على تلك الممارسات، إذ عادة ما يُسخر ذلك الفلان إنجازه المزعوم لتحقيق مكاسب وظيفية واجتماعية تضعه في مراكز قد تمكنه من إرباك مصالح الناس والتشويش على أولوياتهم.
لكن ما يدعو إلى شيء من التفاؤل أن المجتمع في الآونة الأخيرة قد بدأ يخرج عن صمته حول قضية العبث بالشهادات الأكاديمية، إذ لمست حماسا من بعض المتصلين من القراء بلغ درجة الإفصاح عن أسماء بعينها في الساحة العامة يدور حول مؤهلاتها كثير من علامات الاستفهام. ولعل من بين أسباب زيادة الوعي بتلك القضية وأبعادها هو انتشار وسائل التواصل الإلكترونية وفي الوقت نفسه تضاءل فرص العمل المجزية أمام مستحقيها من المؤهلين في القطاعين العام والخاص بعد أن سطت عليها زمرة المدعين.
من بين الدروس التي تعلمتها من اتصالات القراء عن بعض الآليات التي تطبقها الشركات الكبرى للكشف عن تزوير الشهادات والمؤهلات ما رواه أحدهم عن تجربة عاشها أثناء عمله في فرع إحدى الشركات العالمية في الرياض في السنوات القليلة الماضية. إذ أعلنت تلك الشركة عن حاجتها لشغل وظيفة مدير للموارد البشرية بمزايا مالية مغرية. بالطبع أسندت تلك الشركة مهمة فرز الطلبات لأحد المكاتب الاستشارية المتخصصة في تقويم السير الذاتية والمؤهلات وتقدير مدى ملاءمتها لمهام الوظيفة المعلن عنها، على أن القرار الأخير في عملية الانتقاء تنفرد به إدارة الشركة.
كان الفائز بتلك الوظيفة أحد المواطنين الذي قدم سيرة ذاتية مبهرة وشهادات أكاديمية مميزة، كما اجتاز مرحلة المقابلات الشخصية. لكن القصة لم تنته عند ذلك الحد، إذ مارست الشركة حقها خلال الشهور الثلاثة الأولى في التحقق من صحة كل ما جاء في السيرة الذاتية من خبرات سابقة، شهادات أكاديمية، دورات تدريبية، إلى آخره. تلك المراجعة الفاحصة تضطلع بها مؤسسات لها علاقات واسعة حول العالم وتمارس مهمتها تحت غطاء قانوني يخولها الاستفسار مباشرة من أية جهة ورد اسمها في السيرة الذاتية للموظف عن صحة المعلومات التي نسبت إليها. وكانت المفاجأة غير المتوقعة أن واحدة من الشهادات الأكاديمية التي قدمها مدير الموارد البشرية ضمن ملفه ثبت أنها شهادة مزورة. لم يمض ذلك اليوم إلا وقد سلّم ذلك المدير ما كان في عهدته من أوراق وملفات، وغادر من الباب الخلفي، ربما ليبحث عن جهة أخرى يمكن أن تنطلي عليها الشهادة.
تلك الآلية وما شملته من خطوات لاختيار العناصر المؤهلة والأمينة لشغل الوظائف قد تستحق النظر من قبل الجهات المسؤولة عن التوظيف كوزارة الخدمة المدنية، وغيرها. كما قد يرى مجلس الشورى ملاءمة دمجها ضمن مشروع النظام الذي يعكف على دراسته لمكافحة تزوير الشهادات. صحيح أن هناك تكلفة مالية ستترتب على تبني تلك الآليات، غير أن تلك التكلفة لا تذكر مقارنة بالمنافع التي سيجنيها المجتمع والاقتصاد عندما يوضع الشخص المناسب في المكان المناسب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي