أولويات السلطات الليبية الجديدة
تدخل ليبيا بعد مرحلة القذافي الطويلة مرحلة جديدة مثقلة بتركة ثقيلة بسبب الجهد الدموي لإزاحة نظام قرر أن يدمر ليبيا وشعبها انتقاماً لما اعتقد أنه نكران للجميل ومؤامرة عليه، وهو يرى أنه كان يستحق الشكر على ما يراه في دنياه وعالمه الذي صنعه بنفسه حاكماً مثاليا أو فيلسوفاً متصوفاً، وسيقف المؤرخون طويلاً أمام هذه الشخصية التي استحال على المعاصرين لها أن يفهموها، ولكن المشكلة هي أن الشعب الليبي دفع ثمن حماقاتها ومشاكلها النفسية مرتين ويدفعه الآن للمرة الثالثة.
أما المرة الأولى التي دفع فيها الشعب الليبي الثمن فهي أكثر من أربعة عقود اهتزت فيها العلاقات بين ليبيا ومعظم الدول العربية وأصبح الشعب الليبي يعاني من كراهية الشعوب العربية الأخرى بغير وجه حق نيابة عن تصرفات حاكمه، كما دفع خلال هذه المرحلة عزلة كاملة وعقوبات شاملة قاسية ظلماً وعدواناً، وانتهت بدفع فدية كبيرة لحريته مع الخارج مع استمرار اعتقال النظام له ولحريته في الداخل. أما المرة الثانية التي دفع فيها الشعب الليبي الثمن وكان ثمناً باهظاً فهي المرحلة الفاصلة بين ثورة 17 شباط (فبراير) حتى مقتل القذافي وإعلان تحرير ليبيا من نظامه في الأسبوع الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) 2011، ورغم قسوة المشهد الذي ظهر فيه القذافي مقتولاً إلا أن الشعب الليبي كله دفع من نفسه وماله ووطنه ثمناً إضافياً عالياً وهو حقد القذافي ونظامه على هذا الوطن والشعب مما ظهر في أعمال الإبادة والانتقام حتى اللحظات الأخيرة، كما دفع ثمناً صار ديناً عليه وهو استحقاق حلف الناتو الذي تدخل ضد القذافي والجهد الأمريكي المستحق الثمن لتعقب القذافي مما أدى إلى قتله حسب اعترافات هيلاري كلينتون في تصريحاتها في صحيفة الـ "واشنطن بوست" الأمريكية يوم 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2011.
وأما المرة الثالثة التي يدفع فيها الشعب الليبي الثمن فهي تكاليف إعادة بناء ليبيا بالكامل: نظام سياسي ديمقراطي بدولة حديثة، علاقات دولية تعيد ليبيا إلى أمتها العربية والإسلامية بعد عصر الخرافات الإسلامية والسياسية وإعادة بناء الإنسان الليبي الذي دمره النظام ونالت منه معركة مقاومة واقتلاع النظام ثم هناك الدين المستحق لحلف الناتو.
وقد لوحظ أن ابن علي في تونس فر وترك بقايا النظام، كما ترك مبارك السلطة وبقي في مصر، كما بقي نظامه بقايا تتربص بمقدمات العصر الجديد، أما في ليبيا فقد سقط نظام القذافي قبل أن يسقط هو صريعاً. ومعنى ذلك أنه يمكن أن نتصور السهولة النسبية التي يتقدم بها النظام الجديد دون مقاومة جديدة من بقايا النظام القديم، لأنه يفترض أن هذه البقايا زالت بالمواجهات العسكرية إلا قليلاً.
ونذكر المسؤولين الجدد في ليبيا بأن بعدهم عن الانشقاق المذهبي الذي لا تعرفه ليبيا أو السياسي حول الاتجاهات والخيارات هو أهم عاصم لهم من الزلل في معركتهم الكبرى في بناء ليبيا الجديدة. فلا معنى للخلاف بين الثوار والسياسيين، فقد ثار الشعب كله وقاوم النظام بكل ما يستطيع والحكم ليس غنيمة لمن كان إسهامه أكبر، ولكن الحكم للأقدر على البناء. والمعلوم أن القدرة على هدم النظام تختلف عن قدرات بناء نظام جديد، وكلاهما: الهدم والبناء هما أعظم إنجازات الشعب الليبي في تاريخه الحديث.