زهور الزنبق وعجلات المركبة

زهور الزنبق وعجلات المركبة

العاشرة مساءاً، وليلٌ مفجعُ يداهم شوارع المدينة ناشراً ظله وحزنه على أغصان الأشجار العتيقة، وتبدو بشموخ ثباتها من القديم شاهدة على ألف حكاية و حكاية. وقبل أن تتقصف أغصان زهور الزنبق كانت هناك أحجية خفية، تكاد تكون ذات الوقت محكية، خدع الأفاعي البشرية الملتفة دوماَ بحيل مارست مهاراتها ونفثت سمومها على براءات الطفولة، فيزوغُ الحق وتهزم الابتسامة القديمة، ويُدفع ثمنُ مالا يقدَّر بثمنٍ، كالعادةِ.. رخيصاً! من يشتري الزنبق؟ وهل حكم عليه أن يُشرى ويباع، ثم يُزج في براثن الضياع ... العاشرة مساءاً، وقت خروج الذئاب العطشى نحو كبد المدينة، تشرب من دم أرنبٍ جريح، ثم تطبق الأنيابَ على نحر غزال كان قبل لحظات أنيق القفزات. بللت قطرات المطر شعرَ وكتفـَي صاحبة العينين الواسعتين اللتين غارت براءتهما ، كانت تبدو للرائي رغم شقائها كمن تتحمّم بعطرٍ وتتنشف بنور. وكيف لا؟! لا زالت بعمر الزهور، يحاول جسدُها الغضُّ الطري الخروج من شرنقته الصغيرة بعد صبر دام عقد وقبضة من السنين، وفي عقلها وقلبها سكـَنَ حنينٌ حاد للعب مع صديقاتها في الابتدائية. تهاوى هيكلُ جسدِها الصغير من طول اللف والدوران، فقد جابت اليوم شوارعَ جديدة ناشرة ً زنبقها على حبل الغسيل. اقترب صاحب المركبة الفارهة من إناء زهور صاحبة العينين اللتين غارت براءتُهما كوحش ضارٍ شدته رائحةَ الفقر فيها. الشيبُ غزا شعرَ رأسه منذ عقود، وحفر الزمانُ أخاديدَه في تضاريس وجهه. وإختبأت باقي الملامح المريبة خلف نظارةٍ كبيرة سوداء. وسألها عن سعر كل بواتق الزنبق بيدها، فأشرق أملٌ مخنوقٌ برجاء العودة إلى دارتها القديمة، وانهال في رجائها ما خالته غيثا على أرض جفاف جوعها ونصَبها.. طأطأت رأسَها وردت بخجل: "كما تريد، سيدي". وعندما مدت أغصان الزنبق نحو السائق المريب، غزا الرعبُ قلبَها الصغير عندما انفرجت ابتسامته المصفرة، كاشفة عن أنيابٍ رمادية، فتضاعفت الأخاديدُ على تضاريس وجهه عددا وعمقاَ.. -"اركبي السيارة، اركبي بالمقعد الخلفي، سوف أعطيكِ ثمنَ كلّ زنابقك، ثم سأعيدك إلى بيتك، هل هو بعيد؟ أقديمٌ أم جديد؟". رددت بتردد: "بيتي بعيد، أسكن مع أمي وإخوتي، وهم بانتظاري في بيتنا القديم". فتح باب السيارة الخلفي، وسرعان ما اختفت صاحبة العينين اللتين غارت براءتهما في جوف المركبة المطهمة، وداست العجلاتُ الضخمة فوق زهور زنبقٍ بطعم الدم.. وداست قبل ذلك على براءةٍ وطهرٍ لن يعودا!
إنشرها

أضف تعليق