إنها حتماً ليست الكلمة الأخيرة
كان يوم السبت قبل الماضي هو آخر يوم لي في رئاسة تحرير صحيفة عرب نيوز بعد رحلة امتدت لأكثر من 24 عاماً انقسمت إلى فترتين. وكان ذلك السبت هو اليوم الذي قلت فيه وداعاً.
بدأ عملي في هذه الصحيفة العملاقة في شهر أيار (مايو) عام 1982م عندما طلب مني تولي رئاسة التحرير. وكنت أشعر بيني وبين نفسي بالثقة في أداء هذا العمل الكبير خاصة وقد لازمني حبي للغة الإنجليزية طوال حياتي وكان هذا الحب يجري في دمي فقد كان للوالد مجموعة كبيرة من الكتب الإنجليزية دأبت على قراءتها بشغف ومتعة، كما أنني نشأت وأنا أستمع إلى برامج ونشرات هيئة الإذاعة البريطانية باللغة الإنجليزية. ورغم معرفتي الكاملة بهذه اللغة إلا أنني لم أتوقع أن يجيء يوم أقوم فيه بتحرير صحيفة باللغة الإنجليزية.
توليت منصبي عندما كانت الحرب العراقية الإيرانية على أشدها وعندما كان السوفيت يغزون كل أراضي أفغانستان. وجاء تعييني في هذا المنصب قبل أيام قليلة من وفاة الملك خالد بن عبد العزيز ـ يرحمه الله ـ وقبل الغزو الإسرائيلي للبنان. وكان هذا التعيين، كما يقول الغربيون بمثابة التعميد في النار.
وكانت مكاتب الجريدة تقع في عمارة متآكلة في حي الشرفية في جدة بالقرب من المطار القديم. وكانت المكاتب صغيرة وكئيبة تفوح منها رائحة حبر الطباعة التي كانت تملأ الجو. وقد استطعت من خلال حبي للعمل الصحفي وميولي الرياضية أن أضع بعض اللمسات الجديدة على الجريدة.
وكانت فترة الثمانينيات تعج بالأحداث السياسية الكبيرة منها اغتيال أنديرا غاندي، الذي قامت عرب نيوز بتغطيته والوفاة الغامضة للرئيس الباكستاني محمد ضياء الحق والأحداث التي كانت تترى في ميادين القتال في أفغانستان تحت الاحتلال السوفيتي.
وفي يوم الخميس الثاني من آب (أغسطس) عام 1990، قامت قوات الرئيس العراقي السابق صدام حسين بغزو الكويت. وأذكر أن فني التيلكس في عرب نيوز حينها الأخ عمر محمد علي أيقظني من النوم عند الخامسة والنصف صباحاً ليبلغني بعبارات مختنقة أن العراق قد قامت بغزو الكويت. ومنذ تلك اللحظة بدأت العمل وطلبت الإذن من قيادة الشركة السعودية للأبحاث والنشر لتأسيس مكتب في مدينة الدمام عاصمة المنطقة الشرقية وكان لي ما أردت. وتم اختيار فريق صحفي من عرب نيوز ومن مطبوعات الشركة الأخرى برئاستي وتوجهنا صوب الدمام التي بقينا فيها من آب (أغسطس) 1990 إلى آذار (مارس) 1991.
وكانت تلك أيام لها تارخ وكان مراسلو عرب نيوز أول من دخل الأراضي الكويتية المحتلة ولم يكد يمر يوم دون أن يحققوا هم وزملاؤهم من المطبوعات الأخرى سبقاً صحافياً عن مسارات الحرب تتصدر العناوين الرئيسة للصحف العالمية.
وفي يوم 14 شباط (فبراير) عام 1993 كان علي أن أغادر عرب نيوز. ولعلني هنا لأول مرة أشعر أن الألم كان يعتصر قلبي وأن الحزن كان يخيم على حياتي بالكامل غير أنني - والحمد لله - شخص مؤمن آمن بالقدر خيره وشره.
وبعد خمس سنوات من هذا التاريخ، وتحديداً في الأول من آذار (مارس) 1998 طلب مني العودة مرة أخرى إلى عرب نيوز. وكانت الجريدة في هذه المرة تمثل تحدياً حقيقياً فقد دخلتها التقنية الجديدة، وتغير بالتالي أسلوب التحرير فكانت الحاجة إلى جيل جديد من الصحافيين لمواكبة هذا التطور. وقد استطعنا أن نواكب تلك التطورات وأن نعيد شحذ أنفسنا وأن نحدث بيئة العمل في المكتب.
ولم تمر أعوام قليلة حتى تفجرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 فاتخذت عرب نيوز دوراً أكثر ديناميكية ولم يعد الأمر قاصراً على تغطية الأحداث المحلية، والإقليمية، والدولية فقط لكننا آلينا على أنفسنا مهمة التصدي للافتراءات والتطاول على المملكة وعلى الإسلام في محاولة لتصحيح الصورة وإعادة الأمور إلى نصابها.
قمنا بتكوين فريق من المتطوعين للرد على آلاف الرسائل التي كانت ترد إلينا عبر البريد الإلكتروني وكانت في معظمها رسائل عدائية مملوءة بالشتائم والسباب.
ومرت السنوات مسرعة. وأدركت أنه إذا كان لنا أن نواكب الزمن وأن نحدث بصمة وأن نكون مواكبين للتطورات التكنولوجية فعلينا أن نعمل أكثر.
واستجلبنا شباباً من الجيل الجديد المسلحين بالمعرفة الكاملة بكل التطورات التكنولوجية، وقمت بنفسي بالبحث عن مثل هذه المواهب واستطعنا أن نكون فريق تحرير يتكون من صحافيين من مختلف الأعراق والأجناس والأديان والخلفيات الثقافية.
وعلى أية حال، فقد كان لنا مبدأ واحد وأيديولوجية واحدة في غرفة التحرير ألا وهو أن تقدم عرب نيوز صورة متعمقة للمملكة العربية السعودية الجديدة والمتغيرة وذلك من خلال إبراز قيم التسامح والوسطية وأن تعمل ذلك بدون ضجيج أو إعلانات ترويجية.
وتحلينا، كما أعتقد، بالشجاعة الكافية حين ركزنا على التحديات الاجتماعية، والقضايا العمالية، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والعنف ضد الأطفال، والبيروقراطية الحكومية وغيرها من قضايا تهم المجتمع.
كما أبرزنا أيضاً قضايا الخادمات وما يتعرضن له من معاملة سيئة منها تأخير أو عدم صرف رواتبهن، والعنف ضدهن وأيضاً ضد المرأة والطفل. ونتيجة لهذا الموقف، أصبحت عرب نيوز ملاذاً لكثير من الأجانب الذين لهم قضايا عمالية وليس لهم موارد مالية لتوكيل محامين. وأصبحت عرب نيوز المحامي المدافع عن هؤلاء العمال واضطلعت بهذا الدور بشجاعة منقطعة النظير وذلك بهدف بناء جسور من التواصل بين الشعب والسلطات، كما أصبحت الجريدة منتدى للتفاهم، والانسجام والتعاون.
وقليلة هي الصحف التي دخلت حياة قرائها مثلما فعلت عرب نيوز وأصبحت البلسم الشافي للوافدين والمنتدى الأثير للشباب السعودي، وزادت مجموعات القراء يوماً بعد يوم ولعل ما يؤكد عمق العلاقة بين الجريدة والوافدين هي أن الكثيرين منهم، والذين عادوا إلى ديارهم بعد انتهاء سنوات الغربة، لا يزالون يقرأون عرب نيوز من خلال موقعها على شبكة الإنترنت.
ولأنها منتدى للتفاهم، والتعاون والانسجام، يحرص كثير من الصحافيين الأجانب الذي يزورون السعودية على زيارة مكاتب عرب نيوز لأنهم يعلمون علم اليقين أن الجريدة تضع يدها على نبض الشارع السعودي وأن المعلومات الموثقة عن المملكة وعن المجتمع السعودي تقدم لهم بالطريقة التي يفهمونها.
وأنا هنا اليوم بعيداً عن موقعي السابق أنظر إلى عرب نيوز بكثير من الرضا والإعزاز.
وفي نهاية الأمر فإن فريق المحررين والعاملين هو الذي يصنع الجريدة وليس فقط رئيس التحرير. واليوم، وأنا أعود بالذاكرة للوراء، فإنني أشعر بالفخر إذ استطعت أن أكون فريقاً متجانساً، ومدرباً، وماهراً، ومسؤولاً من المحررين الذين يعرفون المادة الخبرية من غيرها ويعرفون مكامن المزالق والدروب الوعرة من السالكة. إنهم فريق يستطيع حمل عرب نيوز بثقلها ومسؤولياتها والوصول بها إلى آفاق أرحب وأوسع.
إنهم كتاب شجعان وذوو ضمائر حية من سائر أنحاء الدنيا. وكلمة عرب نيوز اليومية تمتاز بأنها كلمة جريئة وبأبعاد دولية مواكبة للأحداث الداخلية والخارجية، كما أن صفحة بريد القراء فيها صفحة متميزة يشارك فيها القراء بالرأي ولا يتورعون عن انتقاد الجريدة بكل حرية وشفافية.
وفي مقابل هذه الصفحة يوجد قسم للتعليقات في نسخة الصحيفة الإلكترونية. ويشكل هذا القسم علامة فارقة في قصة عرب نيوز التي لم تكتمل.
إن فريق التحرير الموجود في عرب نيوز اليوم هو فريق قوي ومتماسك وهو يضم نساء بارعات ومؤهلات لعبن دوراً مميزاً في مسار الجريدة وما زلن يقمن بهذا الدور. وشخصياً أعتبر توظيف المرأة السعودية في عرب نيوز أحد أعظم الإنجازات التي استطعت تحقيقها وأنا على رأس الجريدة.
لقد بدأت عرب نيوز عملها من جراج للسيارات لكنها اليوم تقرأ في جميع أنحاء العالم ويمكن أن تسمع عبارة ''قرأت ذلك في صحيفة عرب نيوز'' في أكثر المناطق غرابة وبعداً. وقد أصبحت ممارسة يومية عادية أن ينقل الإعلام العالمي عن عرب نيوز الأخبار والتحقيقات والسبوقات الصحفية.
وقد سألني أحد الأصدقاء قبل عدة أيام عن أكثر الأشياء التي سأفتقدها في بعدي عن عرب نيوز فقلت بلا تردد فريق التحرير العظيم، ونقاشاتنا الجريئة الشجاعة والتي ستبقى ما بقيت الجريدة.
وحيث إنه لا يوجد في عرف الصحافة شيء اسمه التقاعد، فإنني سأستمر - إن شاء الله - في الكتابة ولن أنقطع عن القراءة وسيكون الدفاع عن المملكة، والإسلام، والقضايا العربية هي همي الشاغل وهناك مشاريع كثيرة سترى النور قريباً - إن شاء الله. وعليه فإن السبت المذكور الذي كان آخر أيامي رئيساً للتحرير في عرب نيوز، سيكون بداية انطلاقي نحو عالم جديد من العمل الصحفي المسؤول.
وحتى ذلك الحين، فليبارككم الله أيها القراء والزملاء ويسعد أيامكم.