اقتصاد الثورات .. نموذج «السوق فقط» يتراجع لمصلحة «الدولة والسوق معا»

اقتصاد الثورات .. نموذج «السوق فقط» يتراجع لمصلحة «الدولة والسوق معا»
اقتصاد الثورات .. نموذج «السوق فقط» يتراجع لمصلحة «الدولة والسوق معا»
اقتصاد الثورات .. نموذج «السوق فقط» يتراجع لمصلحة «الدولة والسوق معا»
اقتصاد الثورات .. نموذج «السوق فقط» يتراجع لمصلحة «الدولة والسوق معا»
اقتصاد الثورات .. نموذج «السوق فقط» يتراجع لمصلحة «الدولة والسوق معا»

توقع تقرير اقتصادي حديث أن يتراجع نموذج «السوق فقط» في الدول العربية التي شهدت ثورات هذا العام لمصلحة نموذج «الدولة والسوق معا»، إضافة إلى تقلص الاعتماد على سياسات الاقتصاد الحر وآليات السوق المطلق مقابل التركيز على البعد الاجتماعي في الاقتصاد.

وتنبأ التقرير الذي أعده مجلس الغرف السعودية – وتنشره «الاقتصادية» حصريا اليوم – بحدوث «ردة» على برامج التخصيص التي تطبقها الأنظمة السابقة وربما تتعرض للتجميد مقابل توسيع التوظيف في الأجهزة الحكومية لمواجهة الضغوط الشعبية التي أصبحت لها اليد الطولى في التغيير.

وانطلق التقرير في توقعات من كون هذه الثورات العربية انطلقت في الأساس من أسباب اقتصادية تتعلق بالنمو والبطالة والفقر والافتقار إلى العدالة في توزيع التنمية، وبالتالي فإن إرادة الشعوب في الفترة المقبلة ستأخذ في الحسبان معالجة هذه الأسباب.

#2#

ورأى التقرير أن الحكومات المستقلبية ستتجه ضمن الملامح الجديدة للتوجهات الاقتصادية المحتملة إلى الضغط على القطاع الخاص، خاصة في الجوانب الاجتماعية، وستتسع برامج المظلة الاجتماعية التي تركز على محاربة الفقر والبطالة والأمية وتحقيق العدالة في توزيع التنمية.

على الصعيد العربي توقع التقرير أن يحدث تراجع على العامل السياسي فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية، وهو ما يؤدي إلى حدوث تغييرات عميقة في توزيع التكتلات الاقتصادية القائمة، مبينا أن التكامل العربي الاقتصادي سيكون بين خيارين إما عملية فك وإعادة تركيب بناء على التوجهات الحديدة وإما سيتعرض لرصاصة رحمة بشكل كامل.

وبشأن التعامل بين دول الثورات وبقية الدول توقع التقرير أن تكون الأولوية في التعاون مع الشركاء الذين يساعدون هذه الدول على الأمن الغذائي ويدعمون برامج التنمية فيها.

منذ بداية عام 2011 والعديد من الدول العربية تشهد اضطرابات سياسية شديدة، ناجمة عن مجموعة من المشكلات الاقتصادية والسياسية المتراكمة، وفي مقدمة هذه المشكلات الاقتصادية البطالة وتدني مستويات الدخول والفقر وارتفاع أسعار السلع الغذائية.

بدأت هذه الأحداث تفرز العديد من الآثار والتداعيات الاقتصادية على اقتصادات دول المنطقة وعلى الاقتصاد العالمي، بل بدأت تؤثر في سياسات المنظمات الاقتصادية الدولية المتخصصة، وفي مقدمتها صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية.

ومن بين مداخل تأثير هذه الأحداث في اقتصادات المنطقة تباطؤ معدلات النمو الحالية والمتوقعة، وتراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وتأثر أسعار الصرف، وتراجع حركة النقل والسياحة والسفر بين وإلى دول المنطقة.

وإضافة إلى الأضرار الاقتصادية المباشرة لهذه الأحداث هناك أضرار اقتصادية غير مباشرة على الاقتصادات العالمية والإقليمية والمحلية، وكلها أضرار ناتجة بالدرجة الأولى عن الآثار السلبية التي لحقت بمناخ الاستثمار وبيئة الأعمال في المنطقة العربية، وما نتج عن هذه الأحداث من عدم استقرار في أسواق الأسهم، ومن ارتفاع لأسعار النفط، ناهيك عن دور هذه الأحداث في تغيير الوجهات الاستثمارية لرؤوس الأموال، والوجهات السياحية للسائحين في العالم.

والأهم من ذلك كله أن هذه الأحداث وتداعياتها أثرت وستؤثر في أولويات السياسات الاقتصادية الوطنية لجميع دول المنطقة بما فيه الدول التي لم تصل لها هذه الاضطرابات، حيث لوحظ مبادرة معظم الدول بوضع قضايا اقتصادية معينة على قمة أولوياتها، بعد أن كانت تحتل مرتبة أقل أهمية في هذه الأولويات، وجاء ذلك بهدف إعادة الاستقرار إلى الدول التي اندلعت فيها هذه الأحداث أو لمنع انتقال عدوى هذه الاضطرابات في حالة الدول الأخرى.

وللموضوعية قد يكون من السابق لأوانه الوقوف بشكل دقيق على حقيقة وتفاصيل الآثار الاقتصادية لهذه الأحداث، وذلك لأسباب عدة أهمها أن هذه الأحداث ما زالت مستمرة، وما زالت تتفاقم وتتمدد في دول المنطقة، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بمدى وحدود هذه الأحداث، ومتى ستنتهي، وما الدول التي ستنجو منها في المنطقة، وكذلك لأن هذه الأحداث ستؤدي في الأجل الطويل إلى تغييرات جذرية واستراتيجية في التوجهات السياسية والاقتصادية لكثير من دول المنطقة، وربما تؤدي إلى تغيير الفلسفات الاقتصادية التي تتبناها بعض الدول في رسم سياساتها الاقتصادية، وفي بناء علاقاتها الاقتصادية مع الشركاء التجاريين.

#3#

ومن ثم يمكن القول إن الآثار الاقتصادية للثورات العربية بمنزلة الجملة التي لم تكتمل مفرداتها بعد، وبالتالي لا يمكن الوقوف بشكل واضح وقاطع على دلالاتها الاقتصادية في الوقت الراهن، إنما يمكن الوقوف على مداخل تأثيراتها الاقتصادية في الاقتصاد العالمي وفي اقتصادات دول المنطقة، كما يمكن استشراف المستقبل وبعض الدروس الاقتصادية المستفادة من هذه الثورات، وذلك في ضوء ما هو متاح من معلومات في هذا المجال، وهذا ما يحاول هذا التقرير القيام به.

أولاً: لمحة سريعة حول الأسباب الاقتصادية للثورات العربية

إلى جانب الأسباب السياسية للثورات العربية، ليس من الصعب الوقوف على العديد من الأسباب الاقتصادية التي ساهمت في اندلاع هذه الثورات، حيث يلاحظ اتفاق الدول العربية التي اندلعت فيها هذه الثورات في كثير من الظروف والمشكلات الاقتصادية، التي أثرت في جودة حياة الشعوب ودرجة رفاهيتها في هذه الدول.

وفي مقدمة هذه الظروف حالة الإحباط التي أصيبت بها شعوب هذه البلدان بسبب ضعف نتائج برامج الإصلاح الاقتصادي بصفة عامة، وتسببها في العديد من المشكلات في كثير من القطاعات الاقتصادية، وإخفاقها في الحد من معدلات الفقر، وتوفير فرص العمل. ويمكن رصد أهم المؤشرات الاقتصادية التي تؤكد ذلك في الآتي.

1ـ تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي وشعور المواطن في هذه الدول بأن مستويات المعيشة لا تتحسن بل تتراجع، ولا تتواكب مع ما تعلنه الحكومات من أرقام في هذا المجال، إضافة إلى عدم عدالة توزيع عوائد التنمية في هذه الدول بين الفئات المختلفة. والشكل رقم (1) يوضح تطور متوسط معدل النمو في الدول العربية بصفة عامة.

2 ـ ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب وضعف نتائج برامج التشغيل في معظم هذه الدول، وهو ما جعل عدد كبير من الشباب في هذه الدول ييأس من سوق العمل، وتشير الأرقام إلى أن متوسط معدل البطالة في الدول العربية وصل إلى نحو 8 في المائة (يراوح هذا المعدل بين 50 في المائة في جيبوتي ونحو 0.4 في المائة في الكويت)، وهو أعلى معدل عالمي، بلغ العدد المطلق للعاطلين عن العمل في الدول العربية نحو 14 مليون نسمة.

3ـ تزايد معدلات الفقر وسقوط النسبة الأكبر من السكان تحت خط الفقر في العديد من الدول العربية، حيث بلغ معدل الفقر في فلسطين والصومال وموريتانيا والأردن واليمن والسودان نحو 40 في المائة، وتجاوز 21 في المائة في مصر، وتجاوز 10 في المائة في سورية والعراق وتونس والجزائر.

4 ـ تراجع جودة الخدمات العامة المقدمة للمواطنين في كثير من الدول العربية، مثل التعليم والصحة والمواصلات، وهو الأمر الذي كان له انعكاساته على جودة الحياة، وعلى طريقة فهم المواطنين للقضايا الوطنية، ويكفي هنا الإشارة إلى تفاقم معدلات الأمية في الدول العربية، التي تجاوزت 59 في المائة في العراق، ونحو 33.6 في المائة في مصر، ونحو 15.5 في المائة في سورية، ونحو 13.2 في المائة في ليبيا، ونحو 19.4 في المائة في تونس، ونحو 41.1 في المائة في اليمن.

5 ـ ارتفاع معدلات التضخم ومعاناة الشعوب من ارتفاع الأسعار ونقص وسوء التغذية، وذلك في ظل الارتفاع غير المسبوق لأسعار السلع الغذائية، وكذلك في ظل فشل سياسات الدعم الحكومي في مساعدة الفئات الأكثر فقراً، حيث تشير دراسات البنك الدولي إلى أن 34 في المائة فقط من مبالغ الدعم الهائلة المقدمة في الدول التي شهدت الاضطرابات تذهب للفئات الفقيرة وأن 66 في المائة من هذه المبالغ تذهب للفئات التي لا تستحق الدعم.

#4#

ثانياً: الآثار الاقتصادية للثورات العربية في الدول التي تشهد الثورات

أثرت الثورات العربية في اقتصادات الدول التي شهدت هذه الثورات بشكل واضح وشامل لكل القطاعات والفئات، وهو ما انعكس بشكل واضح على الأداء الاقتصادي بشكل كبير، ويمكن توضيح مداخل ومجالات تأثر الاقتصادات العربية التي شهدت الثورات فيما يلي:

أ ـ الآثار على الأداء الاقتصادي

لقد أثرت الأحداث التي تشهدها دول المنطقة (تونس ـ مصر ـ ليبيا ـ اليمن ـ الأردن ـ لبنان ـ سورية) في جميع مكونات بيئة الأعمال بها (المكونات السياسية، المكونات الاقتصادية، المكونات الاجتماعية، والمكونات المؤسساتية)، وهذا أثر بدوره في نشاط كل القطاعات الاقتصادية.

كان هذا التأثير أكثر وضوحا في القطاعات الأكثر ارتباطاً بالخارج مثل قطاعات البترول، والسياحة والسفر، والنقل، والتحويلات، والتجارة الخارجية، وامتد التأثير أيضاً ليطول أسعار الصرف للعملات الوطنية وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر في هذه الدول، ولينعكس ذلك كله بوضوح على الأسعار المحلية لجميع السلع والخدمات وفي مقدمتها أسعار المواد الغذائية.

أشارت تقارير أولية لبعض المؤسسات الدولية إلى ضخامة الخسائر التي منيت بها اقتصادات الدول التي شهدت هذه الأحداث، حيث حذر تقرير لمعهد التمويل الدولي من أن كلا من مصر واليمن وسورية وتونس والبحرين قد تشهد هزة اقتصادية عنيفة تتجسد في تراجع إجمالي الناتج المحلي لعام 2011 بنحو 2.3 في المائة، وأشار التقرير إلى أن مصر ستكون المسبب الأساسي في هذا التراجع، حيث إن اقتصادها الذي يمثل نحو 218 مليار دولار سيتعرض لتراجع في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 2.5 في المائة، كما أن الناتج المحلي الإجمالي السوري سيتراجع بنحو 3 في المائة، واليمني بنحو 3 في المائة، أما تونس فسيتراجع الناتج المحلي الإجمالي لها بنحو 1.5 في المائة، في المقابل سيحقق اقتصاد البحرين نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 2.9 في المائة فقط، وهو أقل معدل نمو يحققه منذ عقد التسعينيات.

جاءت نتائج الربعين الأول والثاني من عام 2011م لتؤكد هذه التحذيرات، حيث تراجع معدل النمو في مصر خلال الربع الثالث من السنة المالية (يناير ـ أبريل) ليصبح معدل نمو سالبا لأول مرة منذ عشر سنوات، كما تراجع معدل النمو في تونس ليراوح بين صفر في المائة و1 في المائة خلال الربع الأول من عام 2011.

#5#

التضخم وارتفاع الأسعار

وعلى مستوى معدلات التضخم وارتفاع الأسعار في هذه الدول أشارت التقارير إلى ارتفاع قياسي في أسعار السلع والخدمات، خاصة أسعار السلع الغذائية وأسعار خدمات النقل، ويتوقع تقرير معهد التمويل الدولي أن تشهد هذه الدول ارتفاعاً في الأسعار بصفة عامة يصل إلى نحو 5.7 في المائة خلال عام 2011، وسيدفع ذلك معدلات التضخم للارتفاع ليصل معدل التضخم في مصر إلى 11.5 في المائة، وفي اليمن إلى نحو 15 في المائة، وفى سورية إلى نحو 8 في المائة. وفيما يلي تحليل أكثر تفصيلاً لتأثير الثورات العربية في القطاعات الاقتصادية في الدول التي شهدت هذه الأحداث.

ب ـ الآثار على أسواق المال

لقد كانت البورصات في الدول التي شهدت الأحداث أولى الأسواق تأثراً، حيث تكبدت خسائر فادحة، وأدت إلى إغلاق بعضها لفترة حتى تستقر الأوضاع، كما حدث في البورصة المصرية، وتشير الأرقام إلى أن البورصة المصرية حققت خسائر بلغت نحو 7.5 في المائة، كما حققت البورصة التونسية خسائر بلغت نحو 8.8 في المائة خلال الربع الأول من عام 2011م بسبب هذه الأحداث.

وبسبب استمرار حالة عدم الاستقرار ما زالت أسواق الأسهم في هذه الدول تشهد تذبذبات متواصلة ناجمة عن تراجع ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، وسعيهم كلما ساءت الأحوال الأمنية إلى البيع الجماعي والخروج من السوق تفادياً لمزيد من الخسائر، وعززت التذبذبات في أسواق الأسهم في هذه الدول الافتقار إلى سيولة جديدة في هذه الأسواق.

وتشير الأرقام إلى تحول الاستثمارات في محفظة الأوراق المالية في مصر خلال الفترة حزيران (يونيو) 2010 ـ تموز (يوليو) 2011 إلى صافي تدفق للخارج بلغ نحو 2.6 مليار دولار مقابل نحو 7.9 مليار دولار تدفق للداخل خلال الفترة من حزيران (يونيو) 2009 إلى تموز (يوليو) 2010.

انتقل تأثير هذه الأحداث إلى جميع البورصات في المنطقة العربية، حيث حققت هذه البورصات بعض الخسائر، لكنها سرعان ما تعافت من هذه الآثار، لكن بقيت بعض الآثار في هذه الأسواق، خاصة ما يتعلق بصفقات الاندماج والاستحواذ التي تراجعت بشكل كبير، وكذلك تأجيل معظم الاكتتابات الجديدة التي كان مقرر طرحها بهذه الأسواق.

ج ـ الآثار على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر

لقد أدت حالة عدم الاستقرار في الدول العربية التي شهدت الاضطرابات السياسية خلال عام 2011 إلى تخوف المستثمرين ومحاولتهم البحث عن وجهات استثمارية أكثر أمناً واستقراراً، وتشير المؤشرات إلى حدوث هروب واضح لرؤوس الأموال من المنطقة، كما توجد توقعات باستمرار تراجع نصيب دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط عموماً من الاستثمار الأجنبي المباشر خلال الفترة القادمة. وفي هذا الصدد تشير بعض الأرقام إلى انسحاب استثمارات بنحو ثمانية مليارات دولار من مصر وحدها خلال النصف الأول من عام 2011 (تقديرات البنك المركزي المصري).

تراجع الاستثمار الأجنبي في مصر خلال الربع الأول من عام 2011 بنحو 25 في المائة، وذلك بسبب إلغاء العديد من المشروعات الاستثمارية وهروب رؤوس الأموال للخارج، حيث أعلن البنك المركزي المصري خلال نيسان (أبريل) 2011م أن إجمالي الاستثمارات الأجنبية التي خرجت من سوق سندات وأذون الخزانة المصرية خلال الفترة من 30 كانون الثاني (يناير) حتى 31 آذار (مارس) 2011 بلغت نحو 7.5 مليار دولار، وذلك مقابل نحو 16 مليار دولار خرجت من مصر خلال الأزمة المالية العالمية.

أما في تونس فقد أظهرت البيانات الرسمية أن الاستثمارات الأجنبية تراجعت بنحو 17.9 في المائة، حيث بلغت هذه الاستثمارات نحو 89.5 مليون دولار في كانون الثاني (يناير) 2011 مقابل 159.7 مليون دولار في الشهر نفسه من العام الماضي.

أما في اليمن فقد حدث تراجع حاد في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وذلك بعد أن تجاوزت خسائر الاقتصاد اليمني نحو 1.5 مليار دولار، وتعثر الحركة المصرفية في البنوك اليمنية بنسبة 40 في المائة، وتفاقم عجز الموازنة ليصل لأكثر من أربعة مليارات دولار.

أدت الأحداث في هذه الدول وما نتج عنها من تراجع في معدلات النمو وحجم النشاط الاقتصادي وتأثير واضح في مناخ الاستثمار وبيئة الأعمال إلى تراجع التصنيفات السيادية لهذه الدول مقارنة بما كانت عليه قبل الأحداث، وهو ما أسهم مرة أخرى في تراجع ثقة المستثمرين ببيئة الاستثمار في هذه الدول.

تراجع التنافسية

كما تراجعت تنافسية هذه الاقتصادات، ففي مصر تراجعت تنافسية الاقتصاد المصري عام 2011 بنحو 13 مرتبة للوراء، ليحتل الترتيب 94 عالمياً مقابل الترتيب 81 في العام السابق، وتراجعت تنافسية الاقتصاد التونسي ثماني مراتب ليحتل الترتيب 40 عالمياً عام 2011 مقابل الترتيب 32 العام السابق.

وأدى تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر إلى حدوث ضغوط متزايدة على موازين المدفوعات وعلى أسعار الصرف وأسواق الأسهم في هذه الدول، وجعل هذه الدول تحتاج إلى مساعدة خارجية من صندوق النقد والبنك الدوليين، كما في حالة مصر وتونس واليمن، أو إلى مساعدة دول شقيقة كما في حالة البحرين، وذلك لتخفيف هذه الضغوط، خاصة أن تخفيض التصنيفات السيادية لهذه الدول أدى إلى الحد من فرص وصولها إلى أسواق التمويل الدولية، ورفع تكلفة حصولها على القروض، وذلك بعد أن تم رفع تكلفة تأمين ديونها السيادية عقب هذه الأحداث.

في المقابل تشير التوقعات إلى أن تدفقات الاستثمار الأجنبي سترتفع بشكل ملحوظ في العديد من الاقتصادات الناشئة مثل الصين والبرازيل، وأن هذه الدول ستحصل على نحو 1071 مليار دولار عام 2011 مقابل 990 مليار دولار في عام 2010، أي بزيادة قدرها نحو 81 مليار دولار على عام 2010، ومن الوارد أن تؤدي زيادة تدفقات الاستثمار إلى الدول الناشئة خلال عام 2011 إلى قيام بعض هذه الدول باستخدام سياسات مالية ونقدية صارمة لمنع تأثير هذه التدفقات في الاستقرار المالي لديها، خاصة تأثيرها في أسعار صرف العملات (سياسة للتعقيم المالي).

ورغم هذه التوقعات المتشائمة بشأن تدفقات الاستثمار الأجنبي لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فإن هناك توقعات ومؤشرات متفائلة تفيد بأن الثورات العربية عززت توجهات الاستثمارات في المنطقة العربية، وأن التغييرات التي أحدثتها هذه الثورات قد تؤدي إلى مزيد من تدفقات الاستثمار الأجنبي في الأجل الطويل، خاصة نحو الدول الأكثر استقرارا في المنطقة، وفي مقدمتها دول منطقة الخليج.

ورغم القلق الذي انتاب المستثمرين بسبب هذه الثورات فإن مؤسسة التمويل الدولية، وهي الذراع التمويلية للبنك الدولي، أعلنت في حزيران (يونيو) 2011 أنها ستزيد استثماراتها في المنطقة، وخصصت بالفعل نحو 1.5 مليار دولار للاستثمار في دول المنطقة خلال عام 2011، وأعلنت أنها سترفع هذا المبلغ ليصل إلى نحو 2.5 مليار دولار بحلول عام 2014، وأنها ستركز استثماراتها في المنطقة على مشروعات تطوير التعليم، ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ومشروعات البنية الأساسية.

أيضاً تشير التوقعات إلى أن الثورات العربية سينتج عنها تحقيق مزيد من الشفافية وتراجع في معدلات الفساد، ومن ثم تراجع التكاليف والأعباء والعراقيل التي يواجهها المستثمرون الأجانب، ومن ثم ستزيد تدفقات استثماراتهم للمنطقة، كما سيشجع ذلك الاستثمارات المهاجرة من المنطقة على إعادة التوطن في اقتصادات دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وذلك للاستفادة من الفرص الاستثمارية الجديدة التي ستتوافر في دول المنطقة عند عودة الاستقرار، ومنها الاستثمارات في القطاعات التي ستتخلى عنها الحكومات من أجل رفع الكفاءة الاقتصادية والقضاء على الاحتكارات، حيث تشير الأرقام إلى أن ملكية الحكومات في هذه القطاعات تصل إلى نحو 320 مليار دولار، تمتلكها الحكومات بشكل مباشر أو من خلال الصناديق السيادية.

د ـ الآثار على أسعار الصرف:

تأثرت أسواق الصرف في الدول التي شهدت الأحداث بشكل واضح، وذلك بسبب الضغوط على أسعار الصرف الناجمة عن تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لها، ولجوء المستثمرين الأجانب في أسواق الأسهم للخروج السريع من هذه الأسواق تجنباً للخسائر(هروب الأموال الساخنة من أسواق الأسهم).

ففي مصر تراجعت قيمة الجنيه أمام العملات الرئيسة بشكل واضح بلغت نسبته نحو 2.8 في المائة أمام الدولار الأمريكي، ونحو 13.4 في المائة أمام اليورو الأوروبي، وذلك خلال الفترة من 5 كانون الأول (ديسمبر) 2010 إلى 2 حزيران (يونيو) 2011، اضطر البنك المركزي المصري للتدخل في سوق الصرف من خلال استخدام جزء من احتياطي النقد الأجنبي، وهو ما أدى إلى تراجع هذا الاحتياطي من نحو 36 مليار دولار في كانون الأول (ديسمبر) 2010م إلى نحو 25.01 مليار دولار في آب (أغسطس) 2011م، وذلك للسيطرة على تراجع قيمة الجنيه، ومواجهة نقص النقد الأجنبي في الأسواق بعد تراجع حصيلة مصر منها في ظل تراجع تحويلات المصريين في الخارج، وتراجع السياحة بشكل كبير.

وفي اليمن شهد سعر صرف الريال تراجعاً كبيراً مقابل الدولار وأصبح هناك انعدام تام تقريباً للعملات الأجنبية في السوق، وتوقفت منافذ البيع للدولار في البنوك وشركات الصرافة، وأصبحت هناك صعوبات في سحب أصحاب الودائع الدولارية أي مبالغ من ودائعهم في البنوك اليمنية، وبالتبعية زادت الضغوط على الاحتياطي اليمني من العملات الأجنبية، وهذا الاحتياطي كان قد شهد تآكلا واضحا وتراجعا من ثمانية مليارات دولار إلى خمسة مليارات دولار فقط خلال عامين بسبب تراجع صادرات النفط.

وفي سورية فقدت الليرة نحو 8 في المائة من قيمتها أمام الدولار منذ منتصف آذار (مارس)2011، وأصبحت هناك حالة من الارتباك في سوق الصرف، وذلك بعد تضارب التصريحات الرسمية حول وقف سورية التعاملات بالدولار والاستعاضة عنه باليورو.

الجدير بالذكر أن تراجع الصادرات السورية بنسبة 45 في المائة خلال النصف الأول من عام 2011 بسبب الاضطرابات ألقى بمزيد من الضغوط على قيمة العملة الوطنية، ومن المرجح أن يزيد الأمر سوءا في سوق الصرف السورية بعد العقوبات الاقتصادية التي فرضت على سورية، خاصة الحظر المفروض على النفط السوري.

ثانيا: آثار الثورات العربية في الاقتصاد العالمي

لم تقتصر تداعيات الثورات العربية على اقتصادات الدول التي شهدت هذه الثورات، لكن امتدت آثارها إلى الاقتصاد العالمي ككل، وذلك عبر مداخل عدة للتأثير، وأهمها ارتفاع أسعار النفط، ومفاقمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتغيير الوجهات الاستثمارية والسياحية في العالم.

ذكر البنك الدولي أن تفاقم الوضع في الدول العربية التي تشهد هذه الثورات سيؤثر تأثيراً ملحوظاً في أداء الاقتصاد العالمي، وذلك بسبب تأثير هذه الأحداث المباشر في أسعار النفط ، وذكر البنك أن ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير ولفترة طويلة بسبب أحداث الدول العربية سيؤدي إلى تراجع معدل نمو الاقتصاد العالمي بنحو 0.3 في المائة عام 2011 ونحو 1.2 في المائة عام 2012.

وكانت أسعار النفط قد شهدت ارتفاعاً ملحوظاً بعد اندلاع الثورة المصرية وامتداد الاضطرابات إلى ليبيا. وفي السياق نفسه جاءت توقعات صندوق النقد الدولي لنمو الاقتصاد العالمي متأثرة بأحداث الدول العربية، حيث توقع الصندوق في تقريره السنوي حول آفاق الاقتصاد العالمي أن يكون معدل النمو في الاقتصاد العالمي نحو 4.4 في المائة عام 2011م ونحو 4.5 في المائة عام 2012م، مؤكداً أن هذا النمو سيكون في الأساس في الدول الصاعدة مثل الصين. ومن ثم فمن المتوقع أن يؤثر ارتفاع أسعار النفط في أداء الاقتصاد العالمي من خلال ثلاثة مداخل هي:

1 ـ تزايد الضغوط التضخمية في اقتصاد الأسواق الناشئة التي تعاني زيادة النشاط الاقتصادي في الأساس، وسيعزز من تفاقم التضخم استمرار ارتفاع أسعار السلع الغذائية على المستوى العالمي.

2 ـ تأثر اقتصادات الدول النامية والمتقدمة المستوردة للنفط، حيث ستتضخم فاتورة وارداتها من الطاقة، وهو ما سيرفع أسعار المنتجات في هذه الدول، ويحد من قدرتها على التصدير، ومن ثم ستتراجع مستويات الدخول فيها وتتأخر في الخروج من حالة الركود التي خلفتها الأزمة المالية العالمية .

3 ـ تأثير ارتفاع أسعار النفط في الدخل المتاح للإنفاق الاستهلاكي في الدول المستوردة للنفط، ومن ثم تراجع حجم الطلب والإنفاق الاستثماري، وهو ما يصب في إحداث مزيد من الركود.

ومن ثم فإن تمدد حالة الاضطراب السياسي والثورات في الدول العربية ستحدث مزيداً من التأثيرات الاقتصادية والمالية القوية في الاقتصاد العالمي، وستزيد من احتمالات دخول الاقتصاد العالمي في حالة من الركود التضخمي، المتمثلة في تراجع معدلات النمو مع ارتفاع حاد في معدلات التضخم، وهو ما يعني انزلاق الاقتصاد العالمي لهوة جديدة تؤخر خروجه من تداعيات الأزمة المالية العالمية، وربما يدخل الاقتصاد العالمي في أزمة اقتصادية بملامح جديدة، مدفوعة بعجز الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن خدمة ديونها، وعدم معالجة العجز المتفاقم لديها في الموازنة العامة، وارتفاع أسعار النفط وأسعار السلع الغذائية، وتراجع قيمة الدولار.

وعلى مستوى مناطق العالم بدأت تظهر الآثار الاقتصادية السلبية لهذه الأحداث، ففي الاتحاد الأوروبي ساهمت هذه الأحداث في تزايد الضغوط التضخمية في منطقة اليورو بسبب ارتفاع أسعار النفط، وهو ما يؤثر سلباً في معدل النمو، حيث تشير المعادلات إلى أن ارتفاعا بنسبة 10 في المائة في أسعار النفط العالمية يمكن أن يؤدي إلى تراجع النشاط الاقتصادي في منطقة اليورو بنسبة 0.25 في المائة بعد ثلاث سنوات، ويرفع معدل التضخم بنسبة 0.2 في المائة في السنة الأولى ونحو 0.5 في المائة بعد ثلاث سنوات.

والملاحظ في تأثر مناطق ودول العالم بأحداث الدول العربية أن أكثر الدول تأثراً بهذه الأحداث هي الدول التي ترتبط بعلاقات اقتصادية واسعة مع دول المنطقة. فعلى سبيل المثال تلقى الاقتصاد الأوكراني صدمة كبيرة بسبب الثورات في مصر وليبيا وتونس وسورية، وذلك لأن هذه الدول تمثل أهم الشركاء التجاريين للاقتصاد الأوكراني في مجال الصادرات وفى مجال عقود التوريد والمشروعات المشتركة، خاصة سورية، فقد أدت هذه الثورات إلى إلغاء العديد من الصفقات والمشروعات بين أوكرانيا وهذه الدول، مثل عقود توريد الطائرات لمصر وليبيا، وعقود توريد القمح والتنقيب عن النفط، وصيانة الطائرات مع مصر وليبيا.

الجدير بالذكر أن التبادل التجاري بين أوكرانيا وسورية يبلغ نحو ملياري دولار سنوياً، ناهيك عن تأثر شركات السياحة في أوكرانيا بسبب توقف السياحة الأوكرانية والروسية إلى دول المنطقة بشكل شبه تام.

أيضاً تأثرت اقتصادات الدول التي لها عمالة في دول المنطقة، خاصة في ليبيا، مثل الصين والفلبين وباكستان والهند، حيث تأثرت تحويلات العمالة لهذه الدول بشكل واضح، الجدير بالذكر أن هناك أكثر من 140 ألف صيني يعملون في ليبيا، ونحو 30 ألف فلبيني، ونحو 80 ألف عامل بنجلادشي، ونحو 18 ألف باكستاني، ونحو 20 ألف هندي، ونحو 20 ألف تركي، تم إجلاء معظمهم من ليبيا بسبب الأحداث وتوقفت تحويلاتهم لبلدانهم تقريباً. يضاف إلى كل ما سبق من خسائر تكلفة حرب حلف الناتو على ليبيا، حيث تشير الأرقام الأولية إلى أن هذه الحرب تكلف الولايات المتحدة نحو 40 مليون دولار شهرياً، وتكلف بريطانيا نحو 160 مليون دولار شهرياً.

ثالثاً: آثار الثورات العربية في اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي

امتدت تأثيرات الأحداث في كل من تونس ومصر وليبيا وسورية إلى اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك بسبب ترابط العلاقات التجارية والمالية بين دول المنطقة التي يجمعها تكتل اقتصادي واحد، تمثل قمته منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، كانت أول الآثار التي انتقلت إلى اقتصادات دول مجلس التعاون عبر أسواق الأسهم، حيث تكبدت أسواق دول المجلس بعض الخسائر بسبب تراجع ثقة المستثمرين، وإعادة تقييم الخطط الخاصة بالاكتتابات العامة الأولية، فقد تم تأجيل العديد من هذه الاكتتابات في دول المجلس، ولم تسجل أسواق دول المجلس أية اكتتابات عامة خلال الربع الأول من عام 2011، وذلك مقابل ثلاثة اكتتابات خلال الربع الأخير من عام 2010 بلغت قيمتها نحو مليار دولار.

شهدت أسواق الأسهم في دول المجلس تراجعاً في قيمتها السوقية بسبب الأحداث في المنطقة، وبلغت أدنى مستوياتها خلال شباط (فبراير) 2011، وأشارت بيانات صندوق النقد العربي إلى أن أسواق الأسهم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فقدت نحو 140 مليار دولار من قيمتها السوقية خلال شباط (فبراير) وآذار (مارس) 2011، بسبب اتساع نطاق الاضطرابات في الدول العربية.

والملاحظ أن التطورات التي شهدتها أسواق الأسهم في معظم دول مجلس التعاون الخليجي تأثرت بعوامل عدة في مقدمتها الأحداث في الدول العربية، والأوضاع في أسواق الأسهم الدولية وأسواق النفط العالمية، لكن الملاحظ أن هذه الأسواق استعادت تعافيها مرة أخرى وفي وقت قصير.

وبعد أن تأثرت أسواق الأسهم والمصارف في دول المنطقة بالأحداث بدأت الآثار تنتقل إلى القطاعات الأخرى، خاصة قطاع السياحة، حيث تشير الأرقام المبدئية إلى أن المنطقة العربية تكبدت خسائر وصلت إلى نحو 3.5 مليار دولار خلال الربع الأول من عام 2011م فقط، ارتفعت إلى 4.3 مليار في أيار (مايو) 2011، وهي خسائر مباشرة يمكن أن تتضاعف إذا أخذ في الحسبان الخسائر غير المباشرة الناجمة عن تراجع الأنشطة الأخرى المرتبطة بقطاع السياحة. تفاوت تأثر هذا القطاع بين دول المنطقة، حيث كانت الخسائر الأكبر من نصيب كل من مصر وتونس، اللتين يتوجه إليهما نحو 17 مليون سائح سنوياً، أيضا تأثرت السياحة إلى البحرين وسورية ولبنان والأردن.

وكشفت بيانات المنظمة العربية للسياحة عن حجم الخسائر التي تكبدها قطاع السياحة في عدد من الدول العربية. وعلى الرغم من الخسائر والآثار السلبية التي لحق بالاقتصادات العربية بسبب الاضطرابات، إلا أن هذه الأحداث قد يكون لها بعض الآثار الاقتصادية الإيجابية على عدد محدود من الدول العربية، حيث ساهمت هذه الأحداث في ارتفاع أسعار النفط، وهو ما يصب في مصلحة الدول العربية المصدرة للنفط، خاصة دول مجلس التعاون الخليجي، حيث سيسهم ذلك في تحسن معدلات الإنفاق العام وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي.

أشار معهد التمويل الدولي في هذا الصدد إلى أن الدول العربية المصدرة للنفط التي تتمتع باستقرار سياسي وأمني ستحقق معدل نمو يصل إلى نحو 11 في المائة في المتوسط عام 2011، وسيرتفع المعدل إلى 11.5 في المائة عام 2012م وذلك مقابل معدل نمو متوسط نحو 0.9 في المائة عام 2010، كما توقع المعهد أن يتضاعف إجمالي الفائض في المعاملات الخارجية الجارية لدول مجلس التعاون الخليجي أكثر من مرتين ليصل إلى نحو 292 مليار دولار مقابل 128 مليار فقط في العام الماضي، وذلك على أساس متوسط سعر يبلغ 115 دولارا للبرميل خلال عام 2011.

رابعاً: آثار الثورات العربية في الاقتصاد السعودي

من غير المنطقي القول إن الاقتصاد السعودي بمعزل عما يدور في المنطقة العربية من أحداث وتطورات، وذلك لأن المملكة جزء لا يتجزأ من المنطقة العربية، بل تعتبر قاطرة النمو لهذه الدول، كما أنها ترتبط مع الدول التي تشهد هذه الثورات بروابط اقتصادية متشعبة وعميقة، تشمل تدفقات التجارة والاستثمارات المتبادلة بينها وبين هذه الدول، ناهيك عن أن الاستقرار في المنطقة يؤثر بشكل أو بآخر في مناخ الاستثمار في المملكة، ومن ثم فهذه الأحداث لها تداعياتها على الاقتصاد السعودي، وهذا لا يعني أن هذه التداعيات سلبية في مجملها.

وأهم الآثار التي يمكن الإشارة إليها في هذا الصدد الآثار التي لحقت بالاستثمارات السعودية في الدول العربية التي شهدت هذه الثورات، خاصة مصر وتونس واليمن وسورية، فقد تأثرت هذه الاستثمارات وتمثلت هذه الآثار فيما يلي:

أ ـ الآثار التي لحقت بالمستثمرين السعوديين في أسواق الأسهم:

حيث قدرت استثمارات السعوديين في البورصة المصرية قبل اندلاع الثورة بنحو 7.5 في المائة من إجمالي القيمة السوقية، التي بلغت نحو 82 مليار دولار قبل 25 كانون الثاني (يناير) 2011، كما بلغت استثمارات صناديق الاستثمار الخليجية بما فيها السعودية في تونس مليارات الدولارات، ومع انهيار أسواق الأسهم في هذه الأسواق تكبد المستثمرون السعوديون خسائر قدرت في البورصة المصرية بنحو 1.5 مليار دولار خلال الربع الأول من عام 2011، كما تحملت الاستثمارات في البورصة التونسية خسائر، حيث بلغت الخسائر في سوق الأسهم التونسية نحو 15 في المائة خلال الفترة نفسها.

ب ـ الخسائر التي تعرضت لها الاستثمارات السعودية خارج أسواق الأسهم
تكبدت الاستثمارات السعودية في الدول العربية التي شهدت هذه الثورات خسائر تشغيلية، وخسائر متمثلة في تراجع قيمة الأصول مثل العقارات والأراضي التي تمتلكها شركات سعودية أو أفراد سعوديون، ففي مصر توقف العمل في معظم المشروعات الاستثمارية السعودية والسعودية - المصرية المشتركة طوال فترة عدم الاستقرار، وكان ذلك واضحاً في المشروعات السياحية والفنادق والقطاعات الصناعية المختلفة، وهو ما أدى إلى خسائر تشغيلية يصعب حصرها لهذه الاستثمارات، الجدير بالذكر أن هناك نحو 2500 شركة ومشروع فيها مساهمات سعودية تعمل في مصر، وتحتل الاستثمارات السعودية في مصر المرتبة الأولى بين الاستثمارات العربية بمبلغ يتجاوز عشرة مليارات دولار، تمثل نحو 30 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية.

أما في تونس فقد تكبدت الاستثمارات السعودية خسائر تشغيلية بسبب توقفها عن العمل أثناء فترة الاضطرابات، وتبلغ هذه الاستثمارات نحو 350 مليون دينار تونسي مستثمرة في 41 مشروعاً في قطاعات السياحة والزراعة والعقارات والصناعة والخدمات المالية والمصرفية، كما يسهم الصندوق السعودي للتنمية في أكثر من 25 مشروعاً في قطاعات الصحة والبنية ألأساسية والزراعة.

وفى اليمن حدث تراجع حاد لنشاط الاستثمار السعودي في اليمن، حيث تبلغ الاستثمارات السعودية في اليمن نحو أربعة مليارات دولار تضم 109 مشاريع تتركز في قطاعات السياحة والعقارات، من بينها نحو 1.5 مليار دولار في الصناعة والغذاء.

أما في سورية فقد تحملت الاستثمارات السعودية خسائر تشغيلية بسبب حالة الانفلات الأمني وتعطل الإنتاج، وتبلغ الاستثمارات السعودية في سورية نحو مليار دولار.

والملاحظ بالنسبة للخسائر التي تحملتها الاستثمارات السعودية في هذه الدول أنها في معظمها خسائر تشغيلية بسبب تعطل الإنتاج، لكن الأصول الخاصة بهذه الاستثمارات لم تتأثر بسبب عدم وصول أيدي المتظاهرين إليها، وحمايتها من جانب العاملين بها في هذه الدول كما في حالة مصر.

ويمكن القول إن تأثير الثورات في الاستثمارات السعودية في الدول العربية وانعكاس ذلك على الاقتصاد السعودي ما زال محدوداً، وذلك لأسباب عدة أهمها أن الاستثمارات السعودية في هذه الدول هي عبارة عن فوائض مالية لاستثمارات أخرى في الداخل وأنها غير ممولة من المصارف السعودية ولا من المصارف في تلك الدول، ومن ثم فإن الأضرار التي لحقت بها ستكون دائرتها محدودة وضيقة ومنحصرة في الأجل القصير.

ج ـ خسائر الاستثمارات السعودية بسبب تعديل وإلغاء العقود

إن الآثار الحقيقية للثورات العربية على الاستثمارات السعودية في الخارج لم تظهر بعد، وذلك لأن هذه الثورات سينجم عنها في الغالب بعض التحولات في السياسات الاقتصادية لهذه الدول العربية، منها السياسات الاستثمارية وسياسات الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث ستميل هذه السياسات لتكون أكثر شعبوية، وذلك بغض النظر عن تأثيرها في الاستثمار الأجنبي المباشر أو في مناخ الاستثمار. ظهرت بوادر ذلك في مصر بعد الثورة، حيث لوحظ قيام الحكومة الجديدة بتعديل وإلغاء بعض العقود الخاصة بهذه الاستثمارات، وذلك كما في حالة الحكم ببطلان عقد شراء شركة أنوال السعودية سلسلة محال عمر أفندي في مصر، وتعديل عقد شراء شركة المملكة السعودية لنحو 100 ألف فدان في مشروع توشكي، وصدور حكم قضائي ببطلان بعض الصفقات لبيع الأراضي كما في حالة شركة بالم هيلز التي يمتلك فيها عدد من السعوديين استراحات، وكذلك الحكم ببطلان عقود بيع عدة شركات في برنامج الخصخصة المصري.

والمرجح أن هذا الأمر قد يتسع في الدول العربية التي تشهد الثورات في ظل سعي الحكومات الجديدة لإرضاء الشعوب، وتصحيح بعض الصفقات والعقود الاستثمارية التي تحوم حولها شبهات الفساد.

وهو ما يعني ضرورة وجود آلية فاعلة بالتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص في المملكة لحماية الاستثمارات السعودية في هذه الدول وإلزام الحكومات الجديدة بها بالالتزام بالعقود التي أبرمتها مع المستثمرين السعوديين، ومساعدة المستثمرين السعوديين الذين يلجأون إلى التحكيم الدولي لاسترداد حقوقهم في هذا المجال.

كما أن الأمر يتطلب اللجوء من جانب المستثمرين السعوديين في الخارج بصفة عامة وفي الدول العربية بصفة خاصة للتأمين على استثماراتهم ضد المخاطر التي قد تلحق بها بسبب عدم الاستقرار السياسي أو بسبب القيود التي تضعها الدول على الاستثمارات مثل قيود تحويل العملة وتحويل الأرباح ورأس المال، وكذلك ضد مخاطر المصادرة والتأميم، وذلك لأن هذه المخاطر تزايدت بقوة في ظل الثورات العربية وفي ظل انتشار موجات الوطنية الاقتصادية ضد الاستثمارات الأجنبية، وهو ما رفع الطلب من جانب المستثمرين في العالم على هذه النوعية من التأمينات.

وبصفة عامة يمكن القول إن تأثر الاقتصاد السعودي بالثورات في الدول العربية محدود جداً، وذلك باستثناء تسبب هذه الثورات في رفع تكلفة التأمين على الديون ذات الخمس سنوات للمملكة مقارنة بما كانت عليه قبل كانون الثاني (يناير)2011، وهو أمر طال معظم دول المنطقة وبنسب متفاوتة، كما يمكن القول إن حزمة القرارات الملكية التي صدرت في المملكة بعد عودة خادم الحرمين الشريفين من رحلة العلاج، وحزمة القرارات التي صدرت في آذار (مارس) 2011، وبلغت تكلفتها نحو 130 مليار دولار قد ساهمت في إبعاد الاقتصاد السعودي بشكل كبير عن التأثر بهذه الأحداث، وأرست حالة من التفاؤل في الأوساط الاقتصادية أعادت الاستقرار إلى سوق الأسهم، كما أنها ستعزز معدلات النمو في الاقتصاد السعودي خلال عام 2011، وهو ما يجعلنا نؤكد هنا أن الاقتصاد السعودي رغم ما يدور في دول المنطقة من أحداث فإنه يعيش حالة من الاستقرار، وأن جميع التوقعات تبين أن هناك اتجاها صعوديا لجميع المؤشرات، حيث ارتفاع أسعار النفط ومن ثم تعزيز التوجه نحو زيادة الإنفاق الحكومي، وزيادة فرص النمو القطاعي والعام، خاصة في القطاع العقاري وقطاع المقاولات والإسكان، كما أن أسعار صادرات البتروكيماويات مرشحة للارتفاع خلال الفترة القادمة، خاصة بعد زيادة الطلب العالمي عليها، وفى ظل الأضرار التي لحقت بهذه الصناعة في اليابان بسبب الزلزال الأخير.

ويدعم كل ما سبق التوقعات بزيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر على المملكة باعتبارها وجهة استثمارية آمنة ومستقرة يفضلها المستثمرون، ومرشحة لاجتذاب كثير من رؤوس الأموال التي كانت تذهب للدول العربية التي تشهد هذه الأحداث.

إطلالة على المستقبل

إن استشراف مستقبل الأوضاع الاقتصادية في المنطقة العربية خلال السنوات العشر المقبلة لا يمكن أن يكون منطقياً دون الوقوف على حقيقة التغيرات الاستراتيجية التي ستحدثها الثورات العربية في التوجهات والسياسات الاقتصادية لدول المنطقة، وذلك لأن هذه الثورات قامت في الأساس بسبب النتائج غير المرضية والمتدنية والمخيبة لآمال وتطلعات الشعوب التي حققتها التوجهات والسياسات الاقتصادية التي تبنتها هذه الدول لأكثر من أربعة عقود من الزمن.

ومن ثم فإن هذه الثورات حتماً ستحدث تغييرات في توجهات وسياسات دول المنطقة في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وكلها جوانب ستتأثر وتؤثر بعضها في بعض في الأجل الطويل.

وفي ضوء قراءة أسباب هذه الثورات وما أفرزته من نتائج في الأجل القصير، وما يتوقع أن تفرزه في الأجل الطويل يمكن التأكيد على أن عوامل عدة ستحدد ملامح السياسات والتوجهات الاقتصادية لدول المنطقة خلا السنوات المقبلة، وأهمها ما يلي:

1 ـ تراجع تبني الحكومات لسياسات الاقتصاد الحر وآليات السوق بشكلها المطلق، والتركيز على البعد الاجتماعي في السياسات الاقتصادية، وهو ما يعني تباطؤ برامج التخصيص أو تجميدها أو حتى الردة عليها، وتوسيع فرص التوظيف في القطاعات الحكومية بعد أن تم وقف التوظيف فيها مدة طويلة. أي أن نموذج (السوق فقط) سيتراجع لمصلحة نموذج (الدولة والسوق معاَ).

2 ـ اتساع برامج المظلة الاجتماعية التي تركز على محاربة الفقر والبطالة والأمية، وتوسيع برامج الدعم للفئات غير القادرة، والبحث عن آليات جديدة لتوصيل الدعم لمستحقيه، والعمل على تحقيق العدالة في توزيع عوائد التنمية.

3 ـ حدوث تغير في طبيعة العلاقة بين الحكومات والقطاع الخاص، وذلك من خلال ممارسة ضغوط على القطاع الخاص ليراعي الجوانب الاجتماعية في قراراته، وذلك لتوفير مزيد من فرص العمل للشباب، والحد من ارتفاع الأسعار من خلال تقليل هوامش الربح، والعودة لتوسيع الدور الرقابي للدولة على نشاطات القطاع الخاص، وربط السياسات المحفزة للقطاع الخاص بمدى مساهمته في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للحكومات، واللجوء إلى العقوبات ضد سياسات القطاع الخاص التي تثير حفيظة المواطن، ناهيك عن اتخاذ نوعية من القرارات الاقتصادية الشعبوية (التي تحظى برضا المواطنين من المستهلكين وطالبي العمل مثلاً) بغض النظر عن تأثيرها في القطاع الخاص أو في مناخ الاستثمار.

4 ـ تغير العوامل التي تحكم الأبعاد الاقتصادية للسياسات الخارجية لدول المنطقة، حيث ستكون الأولوية للشركاء الاقتصاديين الذين يساعدون هذه الدول على تحقيق الأمن الغذائي، ويدعمون برامج التنمية الاجتماعية ومحاربة الفقر في دول المنطقة.

ومن ثم سيحدث تراجع للعامل السياسي في هذا المجال، وستحدث تغييرات عميقة في توزيع التكتلات الاقتصادية، وتوزيع التحالفات والاتفاقيات الاقتصادية لدول المنطقة في الأجل الطويل.

وهذا التوجه إما أن يعيد الزخم للتكامل الاقتصادي العربي ولمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، وللتجمعات الاقتصادية في الخليج والمغرب العربي بقوة، أو قد يدخل هذه التكتلات في عمليات فك وإعادة تركيب جديدة من أجل تحقيق المصالح السابق الإشارة إليها، أو قد يطلق رصاصة الرحمة على التكامل الاقتصادي العربي ويدفع بعض دول المنطقة للانضمام إلى تكتلات اقتصادية خارج المنطقة، وذلك وفق ما تقتضيه المصالح الاقتصادية في الظروف الجديدة.

5 ـ تغير سياسات دول المنطقة تجاه المنظمات الاقتصادية الدولية المتخصصة، مثل الصندوق والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، وذلك بعد أن تراجعت ثقة شعوب المنطقة وحكوماتها بشكل كبير بنجاعة سياسات هذه المنظمات لتحسين الأوضاع الاقتصادية لشعوب المنطقة.

6 ـ تغير توجهات وسياسات المنظمات الاقتصادية الدولية تجاه دول المنطقة، وذلك في ظل تركيزها على مراعاة الجوانب الاجتماعية في مسيرة التنمية، خاصة ما يتعلق بعدالة توزيع عوائد التنمية، وجودة النمو، ومحاربة البطالة والفقر، والتركيز على الاستثمار في التعليم، وذلك في ظل فشل سياسات التركيز على مؤشرات الأداء الاقتصادي الكلي والمؤشرات الاقتصادية للاقتصاد الرمزي (التركيز على ما يعرف بمعايير جودة الحياة Quality of life).

7ـ اتساع مساحة الشفافية والمساءلة في بيئة الأعمال الاقتصادية، وذلك بما يحد من حجم الفساد الاقتصادي، ويرسي آليات جديدة غير حكومية ( شعبية) لمحاربة الفساد، وتقليل تأثيره في الأداء الاقتصادي ومستويات المعيشة.

الأكثر قراءة