إلى أين تمضي العلاقات الأمريكية - الباكستانية؟

وصلت العلاقات الأمريكية الباكستانية - في أيامنا هذه - إلى نقطة توتر لم تشهدها من قبل، حيث أطلق المسؤولون الأمريكيون انتقادات حادة لباكستان في الآونة الأخيرة، خاصة تجاه الاستخبارات الباكستانية، كان أشدها تصريح الأدميرال مايكل مولن، رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، الذي اتهم فيه جهات استخبارية باكستانية بدعم جماعة أو شبكة ''حقاني''، المتهمة باغتيال الرئيس الأفغاني الأسبق برهان الدين رباني، وبتنفيذ عملية الهجوم على السفارة الأمريكية في كابول، إضافة إلى عمليات وتفجيرات عديدة ضد القوات الأمريكية في أفغانستان.
ويبدو أن العلاقات بين الولايات المتحدة وباكستان تسير في اتجاه التأزم والانفصال، وتحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية ذلك، لكن أسباب التوتر ترجع في حقيقتها إلى وجود أهداف متباينة كبيرة لكلا الطرفين، ولانعدام الثقة بينهما، والأهم هو محاولة باكستان الخروج من التبعية الأمريكية بشكل كامل، وتبني الصين كخيار بديل، بوصفها مصدر إلهام لشعب باكستان.

حيثيات التأزم
لقد أثار وصف الأدميرال مايكل مولن جماعة حقاني بأنها ''الذراع الضاربة لوكالة عموم الاستخبارات الباكستانية'' أزمة عاصفة في العلاقات الأمريكية - الباكستانية، وردود فعل قوية من طرف المسؤولين الباكستانيين، حيث حذرت وزيرة الخارجية الباكستانية، هينا رباني خار، من أن ''الولايات المتحدة قد تخسر حليفها الباكستاني، إذا استمرت في توجيه اتهامات علنية لإسلام أباد بدعم مسلحين''، فيما أكد رئيس الوزراء الباكستاني يوسف رضا جيلاني أن ''باكستان لن تخضع للضغوط الأمريكية، التي تطالبها بتصعيد عملياتها لمواجهة المسلحين''. وكانت الولايات المتحدة قد هددت باستهداف جماعة حقاني داخل الأراضي الباكستانية، إذا فشلت السلطات الباكستانية في احتواء هذه الجماعة ووقف تحركاتها وعملياتها.
ويبدو أن العلاقات الأمريكية - الباكستانية تسير نحو تحوّل جديد، يقترب من الافتراق وفرط عقد التحالف بينهما في ''الحرب العالمية على الإرهاب''، وذلك بالنظر إلى تزايد الاختلاف حول الهجمات والعمليات التي تقوم بها القوات الأمريكية وأجهزة الاستخبارات الأمريكية ضد تنظيم القاعدة وحركة طالبان وسواهما من التنظيمات الإسلامية المتشددة داخل الأراضي الباكستانية، التي تحصد أرواح العديد من المدنيين الباكستانيين، خاصة في المناطق القبلية.
ولعلها المرّة الأولى التي تفرض فيها باكستان قيوداً على تحركات وتنقلات الدبلوماسيين الأمريكيين في باكستان، بذريعة الحفاظ على أمنهم، الأمر الذي يشير إلى ارتفاع منسوب التوتر في علاقات البلدين، وجعل الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري يدعو إلى وضع ''قواعد اشتباك واضحة'' لتجنب المتاعب، ومنع حدوث انهيار في العلاقات بينهما، في وقت تتزايد فيه أعداد القتلى من الجنود والمدنيين الباكستانيين، جراء قصف قوات التحالف والقوات الأمريكية المنتشرة في أفغانستان، وتتزايد كذلك العمليات المسلحة التي تشنها عناصر حركة طالبان، ضد قوات التحالف، انطلاقا من الأراضي الباكستانية، ويتبادل فيه الطرفان، الباكستاني والأمريكي الاتهامات بالمسؤولية عن تدهور الأوضاع في المناطق القبلية على الحدود بين باكستان وأفغانستان، حيث تزعم الولايات المتحدة أن الحكومة الباكستانية لا تبذل جهداً كافياً من أجل منع عناصر طالبان الأفغانية المدعومة من طرف ما يسمى ''طالبان الباكستانية'' من التحرك في باكستان ومهاجمة قوات التحالف في أفغانستان. فيما تعتبر الحكومة باكستان أن الأخطاء، التي ترتكبها القوات الأمريكية في القصف العشوائي للمدنيين، تؤدي إلى تأجيج مشاعر العداء للولايات المتحدة، وتجعل من الصعب عليها فرض سيطرتها على المنطقة، ومنع المسلحين من شن عمليات داخل أفغانستان انطلاقاً من باكستان.

أساس الصدع
يرجع أساس التحول، أو الصدع، في العلاقات الأمريكية - الباكستانية إلى طبيعة ومضمون ما يسمى ''الحرب على الإرهاب''، التي تخوضها الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، بخاصة داخل باكستان وأفغانستان، وتتكبد فيها قواتها العسكرية وقوات التحالف خسائر كبيرة، نظراً لتنامي الهجمات المنظمة والفاعلة، التي تشنها حركة طالبان ضدها، وضد القوات الحكومية الأفغانية.
ودعمت الحكومات الباكستانية كافة حركة طالبان في أفغانستان، لكنها اضطرت إلى التخلي عنها بعد إعلان الولايات المتحدة الحرب عليها، وقدمت الدعم للولايات المتحدة، فأصبحت باكستان الحليف الرئيس لها في حربها على تنظيم القاعدة وطالبان، خاصة خلال فترة حكم الجنرال برويز مشرف. ومع وصول حكومة جديدة إلى سدة الحكم في باكستان، وذهاب برويز مشرّف في عام 2008، وتسلّم آصف زرداري الرئاسة الباكستانية، طرأ تغيير كبير وجوهري في السياسة الباكستانية حيال مشاركة أفغانستان في الحرب الأمريكية على الإرهاب، حيث تعهدت الأحزاب الباكستانية الحاكمة، بإنهاء التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية الباكستانية. وتأكد التغير بعد قيام الحكومة الباكستانية بعقد اتفاقيات سلام مع حركة ''طالبان باكستان''، أطلقت بموجبها سراح العشرات من مقاتلي الحركة المحتجزين في السجون الباكستانية، مقابل الإفراج عن عدد من الجنود الباكستانيين، الذين كانوا محتجزين لدى حركة طالبان.
ويتحدث المسؤولون الأمريكيون عن تورط باكستان في دعم ورعاية المنظمات المتشددة والإرهابية في أفغانستان ومناطقها القبلية، لذلك تصر على مشاركة باكستان في حملاتها الخاصة ضد تلك المنظمات، وتطالبها بقطع علاقاتها معها، بما في ذلك علاقتها مع جماعة جلال الدين حقاني، التي يديرها حالياً ولداه سراج الدين وبدر الدين، ومع جماعة عسكر طيبة المتهمة بالوقوف وراء تفجيرات بومباي وسواها. لكن رئيس الحكومة الباكستانية يوسف رضا جيلاني، برّر موقف حكومته الجديد من حركة طالبان، بالسعي لإنهاء الإرهاب الذي تتعرض له باكستان، بوصفه على رأس أولوياته، وأنه مستعد لإجراء محادثات مع طالبان من أجل تحقيق ذلك.
غير أن التغيير في الموقف الباكستاني كان مصحوباً بحالة من الارتباك والتشوش حيال كيفية وأسلوب الرد على التدخلات الأمريكية والهجمات عبر الحدود. ولم تجد السياسة الباكستانية الجديدة في التعامل مع طالبان وغيرها عبر التفاوض أي قبول لدى المسؤولين الأمريكيين، الذين يعتبرونه يصب في مصلحة تعزيز قدرات المسلحين من حركة طالبان في المناطق القبلية الحدودية.
ولا شك في أن حيثيات أخرى تقف وراء موقف الحكومة الباكستانية، حيث تتحضر باكستان لمرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ويرى الرئيس الباكستاني أنه ''فيما تخطط الولايات المتحدة لسحب قواتها البرية من أفغانستان، وتترك منطقتنا مرة أخرى، نحاول نحن الاستعداد للتعامل مع حقائق ما بعد الانسحاب. وفي ضوء ذلك يكون السؤال: ما وجه عدم المعقولية عندما نقوم مدفوعين بهذا القلق بالاهتمام بالتداعيات المباشرة والطويلة الأمد للانسحاب الأمريكي المزمع من أفغانستان على حدودنا الغربية؟''. وإلى جانب حسابات الوضع الداخلي والضغوطات التي تمارسها الجماعات الدينية الباكستانية، هناك التخوف الباكستاني من تنامي نفوذ الهند في أفغانستان، حيث تنظر باكستان بقلق إلى ما تقوم به الهند في أفغانستان، وترتاب من المساعدات التنموية الكبيرة التي تقدمها للحكومة الأفغانية، فضلاً عن النشاطات والعمليات الاستخبارية على الحدود الشمالية لباكستان، لذلك يعتبر الباكستانيون أن مصلحتهم الوطنية تتطلب أن تقيم بلادهم علاقات وروابط وثيقة مع حركة طالبان وسواها من الشبكات الإسلامية الأفغانية، بوصفهم حلفاء مفيدين عندما تغادر القوات الأمريكية منسحبة إلى بلادها.
غير أن العامل الأهم في تأزم العلاقات الباكستانية - الأمريكية، تمثل في قيام الولايات المتحدة بإرسال فرقة كوماندوس أمريكية لقتل أسامة بن لادن في ''أبوت أباد'' في عمق الأراضي الباكستانية، دون إبلاغ باكستان أو الاستعانة بها، الأمر الذي أثار غضب القادة الباكستانيين، خصوصاً العسكريين منهم، حيث أعلن قائد الجيش الباكستاني الجنرال أشفق كياني أن أي عمل أمريكي في المستقبل ''ينتهك سيادة باكستان'' سيفضي إلى ''مراجعة كاملة للتعاون العسكري والأمني مع الولايات المتحدة''. واعتبر الساسة الباكستانيون العملية الأمريكية انتهاكاً صارخاً للسيادة الوطنية الباكستانية، وأن توقيتها جاء كي يؤجج التوتر بين البلدين، وأعلن جيلاني أمام البرلمان الباكستاني أنه ''ينبغي ألا يتوصل أحدنا إلى استخلاص أي استنتاجات خاطئة. لأن أي هجوم ضد الأصول الاستراتيجية لباكستان، سواء كان علنياً أم سرياً، سيجد الرد المناسب''. ويقصد جيلاني بـ ''الأصول الاستراتيجية'' القوة النووية الباكستانية، بوصفها المفتاح الاستراتيجي الرادع لباكستان ضد أي عدوان محتمل، خاصة من قبل الهند، التي تعمل استخباراتها مع الموساد الإسرائيلي من أجل زعزعة الاستقرار في باكستان بأي ثمن.

الخيار الصيني
في أعقاب العملية التي أدت إلى مصرع بن لادن، طلبت الصين من الولايات المتحدة احترام سيادة باكستان، وتحدثت تقارير صحافية عن تحذير الصين للولايات المتحدة من ''مغبة القيام بأي هجوم على باكستان، كونه سيترجم على أنه هجوم على الصين''. وجاء ذلك رداً على خطة أمريكية، وافق عليها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حسب تسريبات بعض الصحف الأمريكية، تقضي بأن ''تنشر القوات الأمريكية في باكستان، إذا أوشكت المنشآت النووية في البلاد على الوقوع تحت تهديد الإرهابيين، للانتقام من مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن''. وأثارت التسريبات الصحافية حول هذه الخطة ردود فعل غاضبة من طرف المسؤولين الباكستانيين.
وازداد التعاون بين الصين وباكستان كثيراً خلال السنوات الماضية، وشمل مختلف المجالات الاقتصادية والعسكرية والنووية السلمية وسواها. وتسعى باكستان إلى بناء قاعدة بحرية بمساعدة الصين، والحفاظ على وجود منتظم للبحرية الصينية في ميناء جوادر الواقع على ساحل بحر العرب في إقليم بلوشستان. وخلال الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء الباكستاني إلى العاصمة الصينية، أعلنت الحكومة الصينية تقديم 50 طائرة، ومن دون تكلفة، إلى باكستان من نوع جي إف 17، التي تعتبر من أحدث الطائرات المقاتلة. ويشدد المسؤولون الباكستانيون على أهمية التحالف والتعاون ما بين الصين وباكستان، ويفتخرون بكون الصين الصديق الأقرب والأوفى لبلادهم، لذلك تنظر كل من الولايات المتحدة والهند بقلق إلى تنامي العلاقات الصينية - الباكستانية، وتتخوف من احتمال انجراف باكستان بعيداً عن الهيمنة الأمريكية، لكن ذلك لا يمنع من كون الدعم الصيني يكتسي أهمية حاسمة بالنسبة لباكستان، التي تحاول الفكاك من أسر سياسات الولايات المتحدة ومن الضغوط والعداوة التاريخية الهندية، حيث يعتبر القادة الباكستانيون أنه إذا استمرت الضغوط الأمريكية والهندية على بلادهم، فإنهم سيجدون أن الصين تقف إلى جوارها، وأنهم غير معزولين في محيطهم الإقليمي والعالم.
وعلى الرغم من التوتر والتأزم في العلاقات الباكستانية - الأمريكية، إلا أنه ليس من المرجح أن تتطور الأمور نحو الافتراق التام والقطيعة، نظراً لأهمية باكستان الاستراتيجية بالنسبة للحرب الأمريكية على الإرهاب، وللتاريخ المديد من علاقات التعاون والتحالف بين البلدين، التي تمتد لأكثر من خمسة عقود. وعليه لن تسمح الإدارة الأمريكية بحدوث تغير جذري في التوجهات والسياسات الباكستانية، ولا بتدهور دراماتيكي في علاقاتها مع باكستان، لأن ذلك يضر كثيراً بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية. كما أن الولايات المتحدة تمنح باكستان ما يقارب ثلاثة مليارات دولار سنوياً، على شكل مساعدات وقروض. لكن الأمر مختلف بالنسبة للساسة الباكستانيين، إذ يعتقدون أن باكستان ستكون أفضل حالاً عندما تتخلص من الارتهان الباهظ الثمن لعلاقاتها مع الولايات المتحدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي