Author

الحضور السعودي والنفوذ الإيراني في أعقاب الربيع العربي

|
بعد انهيار موازين القوى في منطقة الخليج إثر سقوط بغداد وانهيار نظام البعث شعرت طهران بأنه ثمة فراغًا يمكن لها أن تملأه توطئة لزيادة نفوذها على حساب غيرها من اللاعبين المهمين في الخليج، غير أن المملكة ـــ حاملة موازين القوى في منطقة الخليج ـــ تجد نفسها في مواجهة تزايد ليس فقط النفوذ الإيراني، بل الطموح الإيراني في إعادة رسم المنطقة بما يتفق مع مصالحها وأطماعها التي لم تعد تخفى على المراقبين. كريستوفر بويك وكريم سجادبور نشرا على موقع مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك في العشرين من أيلول (سبتمبر) ـــ أي قبل أسبوعين ـــ مادة تلقي الضوء على الحضورالسعودي والنفوذ الإيراني في ظل التغيرات التي بدأت تعصف بالمنطقة العربية. وبالفعل هناك مخاوف بأن ما يجري في المنطقة العربية يمكن له أن يفاقم من حدة التنافس بين كل من إيران والمملكة، فلا يمكن للمملكة العربية السعودية أن تقف مكتوفة الأيدي وهي تشاهد محاولات إيران زيادة منسوب نفوذها وتأثيرها في ديناميكيات العلاقات الدولية في المنطقة، وبخاصة أن السعودية تمتلك القدرة على تشكيل عائق أمام الطموح الإيراني. والتاريخ الحديث للعلاقات الثنائية بين طهران والرياض ينبئ بوجود درجة عالية من عدم الثقة المتبادلة بين العرب والفرس، ومن ثَمَّ سيكون للتنافس بينهما أثر كبير في موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط. تاريخيًا، لا ترتاح المملكة لأي وضع يتمخض عنه عدم استقرار أو عدم تيقن في إقليم يعد مجالاً حيويًا لها، وربما هذا ما تراه الرياض فيما يجري من تحولات في الإقليم، فالرياض أقرب إلى عقلية الاتزان المستند إلى أسس الحفاظ على الوضع القائم، أفضل من التغيير الذي يقود إلى الفوضى، كما حدث في العراق، وهذا ما يخلق نوعًا من الخلاف بين واشنطن والرياض في الرؤية، فالأخيرة لا يبدو أنها تتفق كامل الاتفاق مع الإدارات الأمريكية لأسباب باتت معروفة لدى المحللين والمراقبين. والوضع هذا يختلف في إيران، فالأخيرة تستفيد من التغيرات، ويبدو أنها تزدهر في ظل أجواء من عدم التيقن والفوضى، وقد رأينا ذلك في أعقاب الحرب على العراق، وكيف استغلت الفراغ لدفع حلفائها العراقيين على حساب مكونات أخرى من الشعب العراقي، وفي حرب لبنان عام 2006 لرفع من شأن حليفها الأهم حزب الله. وبهذا المعنى رأت طهران في بداية الربيع العربي فرصة لتقويض الوضع القائم كما في تونس ومصر والبحرين. واللافت أن الإيرانيين يعدون التحول الديمقراطي العربي يصب في مصلحتهما؛ لأن الدول المتحولة ديمقراطيًا ستكون أقرب إلى طهران منها إلى واشنطن؛ ولأنها ترى أن الصحوة الإسلامية استمرار للثورة الإيرانية وروح الخميني، هكذا يفكر الإيرانيون! غير أن الأمر اختلف عندما ضرب تسونامي الربيع العربي سورية، ما أثار قلقًا كبيرًا لصنّاع القرار في طهران. فالتغيير في سورية إن قُدِّرَ له أن يفضي إلى تغيير في نظام الحكم ربما يغير من البيئة الاستراتيجية، ما يدفع النظام الجديد في سورية إلى تغيير شبكة تحالفاته، وهنا ستخسر إيران حليفًا قويًا ساعدها كثيرًا في سعيها لتقويض استراتيجية أمريكا فيما عرف بمحور الممانعة. ويرى العديد من المحللين الاستراتيجيين أنه في حال سقوط نظام الأسد فإن إيران ستكون معزولة في الإقليم، أو ستكون دولة من دون صداقات حقيقية، نظرًا للتحالف الكبير بين كل من دمشق وطهران، وسيبقى الصديق الوحيد هو الحكومة الشيعية في العراق وحزب الله الذي سيضعفه التحول في الموقف السوري. للحضور السعودي والنفوذ الإيراني تاريخ طويل، فالسعودية دولة سنية ترى نفسها طليعة العالم الإسلامي، وهو أمر لا يعجب إيران بالطبع التي تعبّر عن الشيعة وترى نفسها طليعة العالم الإسلامي أيضًا. وفي فترة حكم الشاه، لعبت كل من السعودية وإيران دورًا مهمًا لتحقيق الاستقرار في منطقة الخليج، ولم تكن العلاقة بينهما ذات طابع صفري على الرغم من الاختلاف المذهبي. غير أن الثورة الإيرانية في عام 1979 غيّرت من طبيعة التهديدات في المنطقة، ولا سيما عندما كشّر النظام الإيراني الجديد عن أنيابه معبرًا عن أصولية شيعية صفوية جديدة يمكن لها أن تخلط الأوراق في الخليج، ما يشكل خطرًا كبيرًا على الاستقرار الأمني. وكان لدعم السعودية للعراق في حربها مع إيران أثر في تكوين حالة من العداء الإيراني تجاه السعودية. وكان الخميني يمثل الحنق الإيراني تجاه السعودية التي ساهمت في إلحاق هزيمة للاستراتيجية الإيرانية، التي تصدت لها العراق في حرب استمرت ثماني سنوات. تغيرت طبيعة العلاقات بعد وفاة الخميني عام 1989 وتولي علي أكبر رفسنجاني منصب رئيس الدولة ومن بعده محمد خاتمي. وعلى نحو لافت تحسنت العلاقات الثنائية في هذه الفترة، غير أن العلاقات الثنائية تعرضت لانتكاسة بعد تولي محمود أحمدي نجاد الرئاسة في عام 2005، وبخاصة عندما انتهج سياسة خارجية أعادت للأذهان ما يراه الكثيرون من توسع إيراني في ثمانينيات القرن الماضي. وكان للتغيرات الجيوسياسية (احتلال العراق) في الإقليم سبب لوجود حالة من التنافس وانعدام الثقة بين الجانبين. وأي نظرة لعمق التنافس تكشف عن أسباب كثيرة لهذا الأمر، فالرياض تمتلك أسسًا تاريخية لزعامة العالم المسلم، ولا يوجد من ينافسها في هذا المقام، ولا سيما فيها الأماكن المقدسة، ورعايتها ودعمها العمل الإسلامي، وهي بهذا تمتلك نوعًا من التفوق على إيران، وأكثر من ذلك تشعر الرياض بالضد من امتداد النفوذ الإيراني إلى الخليج، وتسعى إلى عدم تمكين إيران من توظيف ورقة الشيعة في الخليج، وهذا ما يفسر الموقف السعودي القوي إزاء ما يجري في البحرين. وفي المقابل؛ هناك شعور إيراني بالتاريخ وتفوق حضاري فارسي مقارنة بالعرب، بمعنى أن ما يضمره الإيرانيون ليس متعلقًا بعداء تجاه العرب السنة فحسب، إنما شعور بالتفوق الحضاري. وحسب بعض الخبراء في السياسة الإيرانية هناك انطباع سائد في طهران أن لبلدهم اليد الطولى في الملفات التي تختلف فيها مع السعودية، كما في لبنان وفلسطين والعراق، ففي هذه الملفات تتفوق طهران تكتيكيًا واستراتييجيًا. ويضيف كريستوفر بويك أن النفط أمر آخر يسهم في تأجيج التنافس بينهما. وهنا نشير إلى أن السعودية هي أقوى بكثير من إيران إنتاجًا وقدرة على التحكم في الأسعار. وفي حين تريد إيران أن تصل أسعار النفط إلى أعلى مستوى ممكن، غير أن للسعودية وجهة نظر مختلفة، فالرياض تسعى لأن يكون سعر النفط معقولاً. وربما يحدث تغير في موقف الرياض بعد أن أعلن خطة إنفاق باهظة التكاليف بعد الربيع العربي. فارتفاع أسعار النفط سيساعد الرياض على تنفيذ مخططاتها الداخلية حتى تضمن تجانسًا واستقرارًا في الجبهة الداخلية. وبسبب البرامج السعودية الطموحة فمن غير المتوقع أن تتبرع الرياض وتحاول تخفيض أسعار النفط، لهذا السبب فإن النفط كسبب خلاف إيراني ـــ سعودي في طريقه للحل على الأقل على المدى القصير، كما ترفض الرياض تسييس النفط، بينما ترغب طهران في توظيفه بوصفه عامل ضغط، والرياض ترى أن ذلك سيؤلب الأسعار العالمية الأخرى، ويوحد المشترين، والبحث عن بدائل. وعلى صعيد آخر، يبدو أن هناك حروبًا بالوكالة تجري بين البلدين، كما في العراق ولبنان وأخيرًا في البحرين، فعندما ترى الرياض أن طهران تتدخل في كل من الكويت واليمن ومصر والبحرين فإنها لا تشعر بقلق إزاء المخططات الإيرانية، ففي البحرين هناك نسبة عالية من الشيعة، وهو ما لا يمكن السماح له بترجمة نفسه لمكتسبات سياسة تطيح بالنظام الحاكم في البحرين، وهذا خط أحمر لأسباب استراتيجية. والتحدي الأكبر أن التنافس بين إيران والسعودية بدأ يأخذ شكلاً صفريًا، بمعنى ما تكسبه الرياض تخسره طهران والعكس صحيح، ففي السعودية يتبلور انطباع بأن إيران لا تسعى فقط إلى أن يكون لها دور أكبر في المنطقة، بل تريد أن تتحكم في المنطقة، وهذا خط أحمر بالنسبة للرياض. لهذا تفهم السعودية مآلات لعب إيران بالورقة الطائفية على اعتبار أن شيعة الخليج سيكونون في نهاية الأمر موالين لإيران. لهذا تحاول السعودية توحيد دول الخليج خلف قيادتها عن طريق توظيف الورقة الطائفية. وعلى العكس من ذلك، لا ترغب إيران في صياغة أطماعها الإقليمية بلغة طائفية أو من خلال منظور طائفي شيعي. فالشيعة في نهاية الأمر لا يشكلون أكثر من 15 في المائة من مسلمي العالم، لهذا ترغب إيران في حمل راية العالم المسلم وليس العالم الشيعي، وهي تريد أن تُوحِّد العالم المسلم خلف راية معاداة الإمبريالية والعداء للولايات المتحدة وإسرائيل. وهناك بطبيعة الحال ما يشير إلى مؤشرات تظهر أن إيران توظف كل ذلك كأوراق لإخفاء أهدافها الحقيقية ولمساعدة طهران على تنفيذ وتحقيق أطماعها التوسعية. وعودة للموضوع الرئيس، يرى بويك أنه ورغم قوة السعودية في الشأن الداخلي، بحيث لا تشهد السعودية أي قلاقل تذكر، إلا أن هناك بعض حلفاء السعودية في الإقليم يعانون الأمَرَّيَنْ، بخاصة مع سقوط الرئيس المصري السابق حسني مبارك، وهذا الأمر يخلق انطباعًا بوجود التهديد للسعودية، كما أن هناك انطباعًا بأن التحولات في الدول العربية ستمنح إيران وجودًا، وهذا لا يعني أن إيران ستحقق نصرًا في نهاية الأمر، فالدولتان ستواجهان تحديات كبيرة على المديين المتوسط والطويل. طبعًا لا يمكن إغفال أين تقف الولايات المتحدة للتوقف عند عمق الخلاف بين إيران والسعودية، فواشنطن تنظر إلى الأمور الداخلية في كل من إيران والسعودية بمنظار مختلف. فترى الإدارة الأمريكية أن حركات الاحتجاج في إيران كتطور إيجابي؛ لأن هناك انطباعًا في واشنطن يفيد بأنه إذا ما حدث تحول ديمقراطي حقيقي في إيران فإن أي حكومة إيرانية ستكون أكثر تسامحًا من الحكومة الحالية، وهذا يعني أن تحسنًا كبيرًا سيطرأ على العلاقات الثنائية بين إيران وأمريكا. لهذا السبب نجد كل ما يصدر من تصريحات أمريكية أو مقالات أو تغطيات صحافية تشير إلى أن حركات الاحتجاج الإيرانية تبعث نوعًا من الأمل في واشنطن. وحسبما ذهب إليه ساجدبور، فإن الأمر مختلف عندما يتعلق الوضع بالسعودية، فإذا ما حدثت قلاقل سياسية في السعودية فإن ذلك مدعاة للقلق؛ لأن السعودية تمثل دولة وضع قائم وعنصر استقرار سياسي واقتصادي إقليمي وعالمي، ومن ثَمَّ لا تستفيد أمريكا في حال حدوث عدم استقرار في السعودية. ويقدم بعض الباحثين نصائح للإدارة الأمريكية حول ماهية الخيار الذي يجب اتباعه مع طهران، فالأخيرة تحقق صعودًا في الإقليم ليس بسبب استراتيجيتها العسكرية ـــ إنفاق السعودية على الدفاع أعلى من طهران ـــ لكن بسبب تأثيرها السياسي لدعمها الحركات الراديكالية. وهنا يرى البعض أن على أمريكا الكف عن التفكير في تسليح الدول المجاورة لإيران، وتركز بدلاً من ذلك على تقزيم جاذبية إيران الأيديولوجية. فمثلاً؛ لو تنجح أمريكا في حل الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، ولو سقط نظام الأسد في سورية فإن تأثير إيران في المنطقة سيصل إلى أدنى مستوياته في العقود الماضية. والموقف الأمريكي متخاذل في كلا الملفين، وهذا يثير حنق السعودية التي لا ترى في سياسة أمريكا الخارجية ما يطمئن، فأمريكا ـــ من وجهة نظر الرياض ـــ لا تستجيب كما يجب للتطورات الأخيرة، فأمريكا غير مؤثرة في الملف الفلسطيني ـــ الإسرائيلي بدليل تبعيتها للموقف الإسرائيلي، ما يرفع من تأثير ونفوذ إيران السياسي، كما أن واشنطن لم تطمئن لغاية الآن للمتظاهرين السوريين التي تسفك دماؤهم على الملأ وبشكل يومي. وتخشى السعودية أن انكفاء أمريكا وتراجع هيبتها يمكن أن يؤدي إلى انسحابها، ما يعني أن الرياض ستتحمل وحدها عبء مجابهة الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة؛ نظرًا لانكشاف العرب استراتيجيًا، وهذا السؤال الذي يدفع السعودية إلى بناء أعمدة توازن متعددة.
إنشرها