خدمة جديدة لا يحتاجها الموتى!
قبل أكثر من عامين كتبت في ''الاقتصادية'' مقالا (بتاريخ 25/4/1430هـ) حول كشوف الحسابات التي تصدرها المصارف السعودية لعملائها، تناولت فيه أسلوب عرض بيانات ومفردات تلك الكشوف والغموض الذي يكتنفها ما يجعلها في كثير من الحالات عديمة الفائدة. ثم أعدت الكرَة في مقال آخر في مطلع العام الجاري حول ذات الموضوع دعوت فيه إلى مراجعة ''آلية'' إعداد وإصدار كشوف الحسابات المصرفية كي تؤدي الدور الذي يفترض فيها أن تؤديه. إذ على الرغم من الوثبة الكبيرة التي تحققت في الخدمات التي تقدمها بعض المصارف السعودية لم نشاهد بعد أثراً لذلك التطوير فيما يخص كشوف الحسابات.
و لعل تنامي اعتماد أفراد المجتمع على المعاملات المصرفية في شؤون حياتهم اليومية يبرر تسليط الضوء مرة ثالثة على القصور في الوظيفة التي يؤديها كشف الحساب بشكله الراهن. إذ ينتظر من ''الكشف'' أن يكون مصدرا موثوقا يعتمد عليه الفرد في التخطيط لالتزاماته المالية الآنية أو تلك طويلة المدى كالاستثمارات، تعليم الأبناء، وغيرها من قرارات تستشرف المستقبل.كما أن هناك أسبابا أخرى تعزز أهمية دور كشف الحساب في معيشة الناس، من بينها تعدد مصادر دخل الفرد العادي، ذلك أنه لم يعد يعتمد كلياً على راتبه بل هناك موارد أخرى من أهمها أرباح الشركات المساهمة التي تودع في حسابه وتسجل برموز لا يستطيع بمفرده فك شفرتها. كما أن هناك بعض الممارسات الإجرامية التي قد يلجأ إليها بعض ضعاف النفوس في تمرير أموال غير مشروعة عبر حسابات أطراف أخرى غافلة لا تدرك تفاصيل حركات حسابها وإن راجعت كشوفها.
لا شك أن مراجعة وتنظيم ملف '' كشوف الحسابات التي تصدرها المصارف السعودية لعملائها'' قد تستغرق بعض الوقت. لكن ما أثلج صدري في الآونة الأخيرة هو الخدمة التي شرعت في تقديمها معظم المصارف، إن لم يكن جميعها، لتعزيز الرقابة على حساب العميل وعلاقته مع مصرفه، ألا وهي إشعار العميل بشكل فوري برسالة عبر هاتفه الجوال بكل حركة في حسابه (سحباً أو إيداعاً) فور حدوثها أسوة بما هو متبع في أجهزة الصرف الآلي، وهي خطوة تحسب لمؤسسة النقد العربي السعودي.
تلك الخدمة كانت في الماضي وقفاً على مصرف أو اثنين فقط ما دعاني في مقالاتي السابقة إلى أن أنادي بتعميمها. ولعل من بين الأسباب التي ساهمت في تبني تلك الخدمة وانتشارها هي القفزة الكبيرة التي تحققت في الأعوام الأخيرة في قطاع الاتصالات من حيث السرعة والأسعار المنافسة.
ويبدو أن بعض المصارف اكتشفت المزايا الكثيرة للخدمة الجديدة ما جعلها تحرص على أن تكون في متناول جميع عملائها بما فيهم الموتى. ففي الأسبوع الماضي تلقيت اتصالا هاتفيا عبر جهاز الجوال من أحد تلك المصارف. كانت المكالمة على النحو التالي تقريبا: هل أنت فلان؟ نعم أنا فلان. هل يمكن أن نتحدث مع والدكم؟ هنا ساورني بعض الشك فكررت على المتصل السؤال: تريد من بالضبط؟ قال: أريد التحدث إلى والدكم. سألته: فيم تريد التحدث إليه؟ قال: أريد أن أعرف إذا كانت خدمتنا الجديدة '' الإشعار الهاتفي'' تصله أم لا؟ حاولت أن أفهمه أن الوالد قد مضى على وفاته أكثر من عامين وأن حسابه مع ذلك المصرف قد تمت تصفيته وإغلاقه في حينه، لكن دون جدوى، إذ أصر ذلك المتصل على تكرار سؤاله ''هل الخدمة الجديدة تصله أم لا؟''. أمام ذلك الإصرار لم يكن أمامي من بد إلا أن أهمس في أذن المتصل أن الخدمة التي تصل الوالد (رحمه الله) الآن هي الدعاء وما قدمه من صدقة جارية.