Author

في امتداح .. الرّكض!

|
في العام 1983م كلّفت مجلة متخصصة في رياضة الرّكض وأخبار أبطالها الكاتب الياباني هاروكي موراكامي بإعداد تقرير عن ماراثون أثينا الشهير. موراكامي الروائي المبتدئ آنذاك - أصدر كتابه الأول في 1979م - كان مبتدئا في هوايته الجديدة كذلك "الركض" وفكر في الفائدة الأكبر لتغطية هذا الحدث والتي ستتأتى له بالمشاركة. ذهب موراكامي لأثينا مشحونا بالحماس ولكنه نسي الاستعداد لحرارة الجوّ وما ينتج عنها من إجهاد وإنهاك عظيم! تجربة الركض تلك، وقطع مسافة الستة والعشرون ميلا بين أثينا وسهل ماراثون التاريخي سجلها الروائي في كتابه المميز "ما أتحدث عنه عندما أتحدث عن الرّكض - What I talk about when I talk about running". الكتاب الذي صدر في عام 2007م سيستقبله مهووسي الركض، ومحبي موراكامي، ومحبي السير الذاتية بشكل عام بذات القدر من الفضول والحماس، لكنّ لا أحد منهم سيشبع فضوله من هذا الكاتب الغرائبي! يصف الكاتب الستير كامبل في رؤيته النقدية للكتاب أسلوب موراكامي في الكتابة بأنّه "اسلوب راكض" وكأنه تعمّد فعل ذلك، ليشعر القارئ بجمله القصيرة والمختصرة والمنطلقة نحو الهدف بأنك تركض إلى جانب موراكامي. في هذا الكتاب شيء من كلّ شيء، ثلاثة أرباعه مستقاة من يوميات الركض الخاصة به والتي يؤكد بأنه حرص على تدوينها أكثر من حرصه على تدوين يومياته العادية. هذا التداخل الملّون للحكايات يعرفه جيدا قرّاء موراكامي؛ كونه يفضّل - ويبدع أيضا- في كتابة قصة داخل القصة! هاروكي موراكامي المؤلف الذي ترجمت كتبه إلى 42 لغة حول العالم وحصل على العديد من الجوائز، ثمّ حولت أعماله إلى نسخ تلفزيونية ومسرحية وسينمائية، في هذا الكتاب يتحرر من الصورة النمطية المثالية التي نضعها في أذهاننا لكل كاتب ويتحدث كإنسان لديه مخاوفه وتجاربه بفشلها ونجاحها. نتابع خلال الفصول المتلاحقة للكتاب روتينه اليومي وتعليقاته على الطرق التي يركض عبرها، الأجواء حوله ويقرأ وجوه الناس والطبيعة. سأضيف لهذا الكتاب سمات إضافية فوق كونه سيرة ذاتية، وكتابا للركض، وعن الكتابة، هذا الكتاب مليء بنصائح - غير فظة ومباشرة - لروتين حياة صحي ونصائح أخرى حول التغيير والانتقال. لا يمكننا وضع أيدينا على التقسيم السابق بوضوح لكنها استنتاجات نلتقطها بينما يحكي لنا موراكامي، كيف تحول من شخص مدخن - كان يدخن نحو الستين سيجارة يوميا - إلى شخص يركض 62 ميلا في ما يسمى بالالترا - ماراثون. كيف تحول من مدير - وصاحب - لنادٍ ليلي لا ينام إلا في السادسة صباحا، إلى كاتب يلتزم بثلاثة إلى أربعة ساعات من الكتابة يوميا ويستمتع بقيلولة الـ30 دقيقة التي تعلمها من زياراته لأوروبا في أيّ مكان وتحتَ أيّ ظرف عندما يغالبه النعاس! وفي حالة تساءلتم عن طعامه، ماذا يأكل وماذا يحبّ؟ فإنكم ستجدون إجابات لمثل هذه الأسئلة، الكثير من السمك والخضار ليؤجل شيخوخته العقلية والجسدية معا. نعرف أيضا بعضا من أسراره التي لا يمكن أن نجد لها سببا محددا، مثل كونه يفضل الحديث بإنجليزيته الركيكة أمام العامّة على استخدام لغته الأمّ "اليابانية" ولغة كتبه الرئيسة. هذا الكتاب رشيق وممتع، رشيق برشاقة عضلات موراكامي التي روضها بالركض المستمر لسنوات، لم يتوقف يوما ولم يصغ لكومة الأعذار التي ازدحم بها رأسه، يقول إنّ يوما واحدا من الكسل والانقطاع يعني نهاية هذا الحماس بأكمله! في مقاطع كثيرة من الكتاب يتوجه هاروكي بالحديث لعضلاته، يجسّدها كما لو كانت كائنا عنيدا يمطرها بالنصائح تارة وبالأوامر شديدة اللهجة تارة أخرى. الكاتب الذي لم يبدأ الرّكض حتى أصبح في الثالثة والثلاثين عمِل بإصرار على تأهيل نفسه للمشاركة في أكثر من 20 ماراثون حول العالم، ويقطع يوميا مسافة ستة أميال خلال كلّ ساعة. فيما يفكّر؟ هل يأتي إلهام كتبه من الركض؟ يقول: لا. يفترض بالإنسان التركيز فيما يفعله لكي ينجزه على أكمل وجه، حينما يركض لا يفكر بالكتابة، مع أنه يقول في كتابه إنّه تعلم كل ما يجب تعلمه عن الكتابة من خلال الركض. إلا أننا نكتشف بأنفسنا أنّ ما عناه بذلك هو المداومة والتركيز، الحليتين الأساسيتين لكلّ كاتب مبدع. قرأت هذا الكتاب على هيئة كتاب صوتيّ، على مدى أربعة أيام وساعة واحدة من المشي على مهل، أفكر في إصرار موراكامي على متابعة الركض في اشد لحظات الألم التي يصف فيها عضلاته وكأنها قطع خبز كافتيريا يبست لأسبوع! وتكراره قوله إنه لم ينصح أحدا أو يلحّ عليه يوما بتجربة الركض - أو المداومة على نشاط رياضي- إلا أنني وبينما استمعت إليه فكرت جديا في البحث عن نشاط ما والمواظبة عليه فقد ينعكس ذلك على مطبّاتي الكتابية وشحّ الكلمات الذي أعانيه لفترات طويلة.
إنشرها