من لعبة المنوبولي إلى لعبة السلم والثعبان
النرد حرمه الشارع كما في صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ''من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير أو دمه''، والنردُ لعبةٌ ذات فص أو زهر تعتمدُ على الحظ، ويتحرك اللاعب فيها حسبما يأتي به الزهرُ من أرقام. ومن حكم الشارع لمنعها أنها لا تعتمد على ما لدى اللاعب من كفاءة وذكاء، بل تعتمد على الحظ، فبتقليب اللاعب للفص أو الزهر ثم طرحه، قد يحصل على عقار متواضع في إنجلترا كطريق أولد كنت، أو ويتشبل البالغة قيمتهما (60 جنيها استرلينيا)، وقد يحصل على عقار باهظ الثمن، كمنطقة مايفير، البالغة قيمتها (400 جنيه استرليني) ثم باستحواذه على هذا العقار أو ذاك، يمكنه تأجيره بثمن بخس أو باهظ، بحسب قيمته، فاللاعب الذكي، ذو الكفاءة، قد يخفق بسبب حظه، واللاعب الأخرق ذو القدرات المتواضعة قد يكون ثرياً بفعل حظه أيضا، وهذه إحدى الحكم الشرعية في تحريم الشارع لهذه اللعبة؛ إذ الخسارة أو الفوز بمجرد طرح الزهر يجرد اللاعب من عقله ويجعله يعتمد على الحظ، فترفع أرقام الزهر من معنوياته، أو تحطمه من الداخل، وهذا يكشف عن حرص الشارع وعنايته بجوانب النفس البشرية ودفع كل ما يسهم في ضعضعتها حتى في شؤون اللعب واللهو!
والشاهد من إيراد هذه اللعبة هو رمزيتها لأسلوب احتكار العقار، وأثره السلبي في جباية الأموال، واستغل هذه الرمزية للعبة عدد من الشباب السعودي في الفيلم الموسوم بمنوبولي، ونجحوا في إيصال فكرتهم إلى كل من يهمه الأمر؛ إذ أضحى تملك المنزل حلماً بعيد المنال لعديد من السعوديين، وكان الفيلم مختصراً، لكنه كان معبراً للغاية، كما أنه كشف عن الوجه الآخر للتمثيل السعودي، الذي يعبر بإيجابية عن واقع معين، وبأسلوب فكاهي ساخر، دون تكلف أو إسفاف أو تبذل، وما كان هذا العمل ليكسب أعداداً كبيرة من المشاهدين والمؤيدين لولا توفيق الله - تعالى، ثم ظهور هذا المشهد التمثيلي من رحم المعاناة، وتوزيع الأدوار بكفاءة، إضافة إلى الاختيار الفذ لاسم الفيلم عبر عنوان المنوبولي، مع تقديرنا لمخرجه وطاقمه، فهو طراز جديد لأسلوب الحسبة، لولا وجود مخالفات يسيرة، هي في بحر إنجازه الكبير.
إنها محاولة ناجحة لوضع المسؤول في صورة الواقع الذي يعيشه الشاب السعودي، وكم من صورة أبلغ من ألف مقالة، وإيصال المعاناة وإظهار الفكرة عبر الكلمة أو الصورة خير من ظهورها في الزوايا المظلمة، أو فيما لا يخدم المصلحة العامة للبلد.
ولئن كانت لعبة المنوبولي سبباً في فوات أموال طائلة بفعل الحظ، الذي التهم أموال باقي اللاعبين، فلعبة السلم والثعبان كانت سبباً في نزول اللاعب من أعلى القمة للقاع بفعل الحظ كذلك، وكلاهما يحظى بآلية ممنوعة، كما أن كلتا اللعبتين يصلح رمزية لتحطيم نفس الشخص المكافح لمجرد وقوعه في عقار مبالغ في سعره، أو لمجرد وصوله لفم الثعبان الذي يلقف ما يأفكون، وهكذا من يدخر مرتبه شهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، فتلتهمه أسعار الإيجار أو الأراضي، فإنه يغبن كما يغبن من تلتهم مدخراته عقارات منوبولي، وكما يغبن اللاعب الذي ينزل للقاع بفم الثعبان بعدما صعد في درج السلم، وبذل جهده للوصول إلى القمة. وكم من شاب أو كهل ادخر مبلغاً من المال ليشتري به عقاراً حتى إذا جمعه وتجهز للشراء زادت الأسعار للضعف ورجع لنقطة الصفر.
إنني مع احترامي لفكرة الفيلم، لا أتفق مع القول القائل إن المخرج من أزمة ارتفاع الأسعار هو فرض الرسوم على العقار، إنما أرى أن المخرج من هذه الأزمة في أمرين لا ثالث لهما، ونبهت إلى ذلك في مقالات عدة نشرت في حينها:
وأولها مقال: ''منح الأراضي والموقف الفقهي''، ونشر بتاريخ 7/1/1431هـ في صحيفة ''الاقتصادية''، فالإقطاع لغير مصلحة عامة السبب الرئيس في ارتفاع أسعار الأراضي، فنحن لا نطالب بعلاج ظاهرة ارتفاع الأسعار قبل أن نحسم الداء من أصله.
وثانيهما مقال: ''الأراضي الفضاء، وجباية الزكاة عليها''، ونشر قبل أكثر من ثلاث سنوات في الصحيفة ذاتها، وبينت أن من إيجابيات فرض الزكاة بدلاً عن الرسوم أو الضرائب، أن الناس إن احتالوا على إسقاط الرسوم فلن يحتالوا لإسقاط الزكاة إلا في حالات قليلة ربما، والاستدلال على كون الأرض من عروض التجارة ممكن، ولا سيما أن الأراضي البيضاء التي أضرت بسوق العرض هي الأراضي الكبيرة المعدة للتجارة، وليست الأراضي الصغيرة التي يعدها كثير من الملاك للسكن، ول اسيما أن كثيراً ممن قد تفرض عليهم الرسوم قد يؤخرون البناء لعدم قدرتهم عليه، فكيف نوجب عليهم تسديد الرسوم؟
ومتى ما انضم إلى هذين الأمرين دعم الدولة عبر القروض الحسنة، وتثقيف التجار ليكونوا أداة خير لشباب بلدهم وأمتهم، فلا يرفعون الأسعار إلا بالقدر المعقول، ويعززون من روح المحبة والإخاء، فإن الأوضاع رأسا ستتحول إلى الأفضل، وليتذكر كل تاجر قول حبيبنا - صلى الله عليه وسلم: ''رحم الله رجلا سمحا إذا باع، سمحاً إذا اشترى ..'' .. فهل بإمكانك أيها التاجر أن تستغني عن رحمة الله؟