Author

نعوم تشومسكي: ما يجري في أمريكا تراكمات أسهمت في تركز الثروة بيد 1 % من المجتمع الأمريكي

|
لا يرى تشومسكي أن ما يجري الآن هو صدفة أو نتيجة لتغييرات حدثت في السنوات الأخيرة وحسب، وإنما هي تغيرات تعود لفترة سنوات السبعينيات عندما خضعت السياسة الاقتصادية الوطنية لتحولات كبرى أنهت ما كان يطلق عليه "العصر الذهبي" لرأسمالية الدولة. فتركيز الثروة أفضى إلى قوة سياسية أكبر أسهمت في تجميع الثروة بيد 1 في المائة من السكان. نعوم تشومسكي، المفكر الأمريكي اليهودي - الذي طالما انتقد سياسة بلده الخارجية واعتبرها تعبيرا حقيقيا عن الإمبريالية - يرى أن قوة الولايات المتحدة في تراجع، لكن إلى أي مدى؟ فهل سنشهد صعود قوى عظمى جديدة أم أننا سنشهد ما قاله ريتشارد هاس عالما يخلو من الأقطاب؟ وماذا لو خبت القوى الأمريكية وصعدت قوى مثل الصين والهند والبرازيل، هل سيؤثر ذلك في الاستقرار الدولي أم أن منظمة قيمية جديدة ستبرز تنافس الديمقراطية وربما تهزمها؟ هل ما يجري في أمريكا اليوم أزمة في بنية النظام السياسي الأمريكي، أم أزمة اقتصادية ستفقد أمريكا مكانتها العالمية أو على الأقل تحد منها؟ ومن هي الدول المرشحة للقيادة؟ الجدل بين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة حول مكانة بلدهم ليس بجديد، فقد انفجرت جولة حامية من الجدل مع نهاية الحرب الباردة وظهور بعض الكتابات المهمة التي رأت أنه من المستحيل للولايات المتحدة أن تبقى منفردة متربعة على السياسة الدولية، في حين رأى فريق آخر مثل جوزيف ناي بأنه لا توجد دولة أخرى يمكن لها المنافسة وبالتالي فإن الولايات المتحدة ستبقى في مركز القيادة رغما عنها ولفترة طويلة من الزمن. الولايات المتحدة - التي ومنذ الحرب العالمية الثانية بقيت القوة الاقتصادية الأولى - بدأت تمر بمشاكل اقتصادية كبيرة ظهرت جليا في السنوات الأخيرة لدرجة أن شركة ستاندر آند بورز خفضت من مكانة أمريكا الائتمانية ما يخلق شكوكا بقدرة واشنطن على سداد ديونها. كما أن أرقام البطالة وصلت إلى أكثر من 9 في المائة وهو مستوى يثير القلق ويضعف من قدرة الرئيس في معركة إعادة الانتخاب. كل هذه التغيرات بالإضافة للصعود الاقتصادي للشرق أدى إلى طرح تساؤلات حول فيما إذا كانت الولايات المتحدة أمة آخذة في الأفول؟ بعض الخبراء بدأ يشير إلى الصين كقوة صاعدة في العلاقات الدولية، وهناك من يتوقع بأن تصبح بكين لاعبا قويا في الأعوام القادمة وربما منافسا للولايات المتحدة في بقاع مختلفة من المعمورة، وهنا يشير البروفيسور المشهور جوزيف ناي من جامعة هارفارد بأن الصين تحقق الكثير من التقدم الملموس في السنوات الأخيرة، وهي دولة تمكنت باقتدار من تحقيق معدلات نمو اقتصادية ربما غير مسبوقة، وتمكنت من إنقاذ مئات الملايين من الناس من الفقر، ويرى جوزيف ناي من أنها ستكون في مستوى مقارب للولايات المتحدة، لكنها لن تتفوق على الولايات المتحدة. وهو نفس الاتجاه الذي ذهب إليه جون بولتون - سفير أمريكا السابق لدى الأمم المتحدة عندما قال إن ما يجري يعني أن العالم أصبح أكثر ثراءً وأنه من المبكر القول إن الولايات المتحدة تتراجع، وحسب رأيه لا توجد قوة على الأرض تتطلع للاقتراب من الولايات المتحدة والتفوق عليها في المجالات العسكرية. صحيح أن أمريكا تواجه تحديات اقتصادية، لكن الصحيح أيضا أن جزءا كبيرا من المشكلة هو سياسي بالدرجة الأولى وله علاقة بالاستقطاب السياسي الدائر بين الحزبين الرئيسين مع ظهور حزب الشاي الذي رفع من حدة الاستقطاب. وهو أمر حذر منه فريد زكريا في الأسبوعين الأخيرين لدرجة أنه يدعو لأن تتخلص الولايات المتحدة من النظام الرئاسي وتأخذ بالنظام البريطاني بحيث نجد رئيس الوزراء هو وحزبه يسيطرون أيضا على السلطة التشريعية ما يسهل من صناعة القرار السياسي والاقتصادي. والمشكلة حسب فريد زكريا أن هناك مماطلة تحدث في الكونجرس تحد من قدرة الرئيس على اتخاذ ما يراه مناسبا لحل المشكلات، فالرئيس يشعر بأنه مفوض من الشارع، كما يشعر بذلك الكونجرس، بمعنى هناك مصادر متعددة تحكم والنتيجة حالة من الشلل انعكست في النقاش الدائر حول رفع سقف الدين العام. ويرى فريد زكريا أن الأمر صعب ولو كان حسب النظام البريطاني لتمكن رئيس الحكومة من الاستمرار في برنامجه لمدة أربع سنوات حينها يقرر الناخبون إخراجه من السلطة أو منحه تفويضا جديدا. جوزيف ناي بدوره يشير إلى ما يراه البعض من حالة فوضى سياسية لها علاقة بمناخ الاستقطاب في واشنطن، لكنه يرى أن الأمر لا يعني أن أمريكا في تراجع، ففي أمريكا دائما عملية سياسية تميل للاضطراب نتيجة للسياسات الحزبية، وهو أمر يميز أمريكا ونظامها السياسي وطريقة صناعة القرار. فالقضية ليست جديدة مع أن فريد زكريا يؤكد أنها جديدة في حدتها وتأثيرها لأن الكونجرس تمكن من المماطلة في 80 في المائة من القرارات في الكونجرس. باختصار وبالرغم من الاتفاق بأن حالة الاستقطاب تضعف من أمريكا إلا أن أيا لا يتحدث عن أفول الولايات المتحدة وتحويلها إلى دولة من دول العالم الثاني كما حدث مع روسيا بانهيار الاتحاد السوفييتي. لكن ماذا عن نعوم تشومسكي؟ تميز نعوم تشومسكي عن أقرانه من المفكرين الأمريكان بأنه كان دائما ما يقف في الطرف الآخر من السياسة الأمريكية، فهو توقع لها أن تتراجع منذ زمن طويل لأن السياسات الإمبريالية تحمل في ثناياها بذور الأفول. ويقول تشومسكي في مقال مثير نشر له على موقع (تروث آوت دوت أورج) إن المفارقة هي لم تمضِ سوى سنوات قليلة على بروز الولايات المتحدة في وضع منفرد وربما مهيمن في السياسة الدولية وإذا بها تمر في مرحلة التراجع، ويؤمن تشومسكي بنظرية تراجع القوة الأمريكية، لكنه يسلط الضوء على نقاط أخرى ذات علاقة. ويجادل تشومسكي بأن التراجع ليس جديدا وأنه بالفعل بدأت مؤشرات الانهيار بعد أن وصلت الولايات المتحدة لأعلى نقطة ممكنة في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة، وأن النصر في مرحلة ما بعد الحرب الباردة لم يكن إلا خداعا، فهناك الكثير من الدول تغلق الفجوة مع الولايات المتحدة وبسرعة في المرحلة ذاتها. ويقدم تشومسكي تفسيرا ليس جديدا على ما قاله في السابق، وهنا يقول إن سيطرة الشركات على السياسة والمجتمع والذي يأخذ طابع التأثير المالي في الغالب، وصلت إلى حد دفع الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة وشتتهما كثيرا عن حق المجتمع عندما يتعلق الأمر بالقضايا الرئيسة التي تشكل مادة المناقشة اليوم. ويعرج على المشكلة الأهم الآن وتتعلق بارتفاع معدلات البطالة في الولايات المتحدة وضرورة خلق وظائف جديدة، وهي عملية قد تحتاج إلى خطة تحفيز حكومية كبيرة وربما أكبر مما قامت به أمريكا لغاية الآن. لكن أيضا التفكير في خطة تحفيز أخرى غير وارد نظرا لارتفاع سقف الدين وأمور سياسية أخرى تتعلق بمطالبة الجمهوريين بخفض النفقات. هناك مشكلة أخرى تعانيها الولايات المتحدة وتشتكي منها المؤسسات المالية وهي العجز وكيف يمكن معالجة الأمر، ويتردد أن الحل يكمن في فرض ضرائب جديدة ومرتفعة على الأغنياء، وهو أمر تؤيده نسبة عالية من السكان حسب استطلاعات الرأي، وهنا نشير إلى استطلاع الرأي أجرته كل من صحيفة الـ"واشنطن بوست" و"أي بي سي نيوز" والتي تظهر موافقة 72 في المائة مقابل ما يقارب من 27 في المائة في حين هناك ما نسبته 69 في المائة تعارض تخفيض الدعم عن النظام الطبي. لكن هذا الأمر يثير من حنق الأغنياء الذين يجادلون من أن فرض مزيد من الضرائب يضعف من فرص خلق الاستثمارات الجديدة وبالتالي لا يمكن خلق فرص عمل جديدة. واللافت حسب رأي تشومسكي هو أن الرئاسة (أي الإدارة الأمريكية) والجمهوريين في مجلس النواب هم خارج اهتمام المواطنين عندما يتعلق الأمر بالموازنة، فاستطلاعات الرأي تكشف عن انقسامات كبيرة، ففي حين يفضل الناخبون إجراء تخفيضات كبيرة في الدفاع والإنفاق العسكري يرى البيت الأبيض ومجلس النواب أن هناك حاجة لزيادة وإن كانت متواضعة. وفي تحليله لكيفية التوصل إلى حل وسط، يرى تشومسكي أن هناك استسلاما لليمين المتطرف، وهو إن حصل سيفضي إلى تباطؤ في النمو الاقتصادي مما يلحق ضررا بالجميع على المدى الطويل، طبعا باستثناء الأغنياء والشركات. فالكونجرس - حسب تشومسكي - يملك أدوات وأسلحة متنوعة في المعركة التي يخوضها ضد أجيال المستقبل، وهنا يشير إلى معارضة الجمهوريين لحماية البيئة التي سببت في أن تبدد جهودا وطنية كبيرة لالتقاط غاز ثاني أكسيد الكربون من مصنع للطاقة العاملة بالفحم، وهو إجراء وجّه ضربة كبيرة للجهود المبذولة لكبح جماح الانبعاثات التي تسبب ظاهرة الاحتباس الحراري. لا يرى تشومسكي أن ما يجري الآن هو صدفة أو نتيجة لتغييرات حدثت في السنوات الأخيرة وحسب، وإنما هي تغيرات تعود لفترة سنوات السبعينيات عندما خضعت السياسة الاقتصادية الوطنية لتحولات كبرى أنهت ما كان يطلق عليه "العصر الذهبي" لرأسمالية الدولة. فتركيز الثروة أفضى إلى قوة سياسية أكبر أسهمت في تجميع الثروة بيد 1 في المائة من السكان، وهم أساسا المديرون التنفيذيون لكبار الشركات، بينما استقرت معدلات دخل الغالبية من المواطنين. في مقابل هذا ارتفعت كلفة انتخاب الحزبين بشكل فلكي وهو ما وضعهما تحت تأثير الشركات، أما ما بقي من الديمقراطية السياسية فقد قوضه لجوء الطرفين إلى بيع المناصب القيادية بالمزاد في الكونجرس، كما يقول توماس فيرجيسون في مقال له نشر في صحيفة "فينانشيال تايمز". هناك الكثير من النقاط التي أشار لها تشومسكي، لكنه يحلل الحالة الأمريكية وكأنها معزولة عما يجري في البلدان الأخرى مما يجعل تراجع الولايات المتحدة إذا ما وضع في السياق الأعرض أمرا تواجهه أكثر من دولة يمكن أن تكون منافسة، وهو ما ذهب إليه أحد أستاذ التاريخ نيال فيرجيسون من جامعة هارفارد عندما قال إن الصين قد تمر بنفس الأزمة المالية التي تمر بها الولايات المتحدة لأن اقتصادها وإن بدا قويا وناميا إلا أنه يظهر نفس الأعراض التي أدت إلى الأزمة المالية. فهناك الكثيرون مما لا يوافقون على أن المشكلات التي تمر بها أمريكا هي خاصة بها وأن عددا من الدول تمر بنفس المشكلات وهو ما يعني أن التأثير كوني يؤثر في الجميع بما فيهم الصين في قادم الأيام. والنقطة الأهم هي أن افتراض أن الصين ستبقى في نفس القوة من حيث النمو الاقتصادي في حاجة لمراجعة لأن الصين قد تتعرض لانتكاسات كبيرة. على كلٍ، ماذا يعني أفول أمريكا في حال حدوثه؟ روبرت كيجان الاستراتيجي الأمريكي المعروف يرى بأنه في هذه الحالة هناك قانون في العلاقات الدولية يفضي إلى ملء الفراغ، ففي الشرق ستكون الصين مما يقلق اليابان وكوريا وأستراليا وغيرهم من الدول التي تعتمد على القوة الأمريكية. وهذا وضع في حال تحققه سيفضي إلى عدم استقرار والأمر نفسه ينطبق على خروج الولايات المتحدة من مناطق يكون فيها توتر بين روسيا وأوروبا. والحقيقة التي يراها روبرت كيجان هي أن استقرار العالم يعتمد بشكل كبير على هيمنة الولايات المتحدة والديمقراطيات المتحالفة معها، بمعنى أن العالم الجديد سيضم من ضمنه الصين وروسيا وهي دول غير ديمقراطية ما يعني أن نقلة كبيرة في النظام الدولي ستحدث بحيث لا تكون الديمقراطية هي الأيدولوجية المسيطرة؛ لذلك يرى كيجان أن قضية التغير ليست قضية جيوسياسية فقط وإنما هناك قلق كبير مما يعنيه ذلك على مستوى العالم.
إنشرها