منذ أيام معدودات كنت في المكتبة العامة في مدينة روشستر في ولاية منيسوتا أراجع مسودات بعض أحاديث الأربعاء التي نشرتها في الرياض من أجل انتخاب ما يجمعه موضوع واحد لنشره في كتاب، بناء على اقتراح بعض الأصدقاء. ووقع نظري على حديث نشرته يوم 2/8/2001م بعنوان: الموت حق ولكنه موجع. والحديث في تأبين الأمير فهد بن سلمان رحمه الله، وتجمعني بالأمير محبة وتقدير. وكنت ألتقيه لماما في كاليفورنيا في ثمانينيات القرن الميلادي الفارط. ثم مرت أيام وإذ أسمع عن وفاة الأميرة سلطانة بنت تركي بن أحمد السديري ( نحو 1361-1432) حرم سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز ووالدة أبنائه: الأمراء فهد وأحمد رحمهما الله. والأمراء سلطان وعبدالعزيز وفيصل والأميرة حصة متعهم الله بالصحة والعافية وطول العمر. وما كنت أحسب ترحمي على الأمير فهد سيعقبه ترحم وحوقلة وترجيع على الأميرة والدته. فسبحان مقدر المقادير. تقول العرب إن الشجى يبعث الشجى، وهذه الأميرة المحبوبة في محيطها تفارقنا بعد عمر أمضته كأصدق أم، وأحلى رؤوم، عاشت سنيها مخلصة لبيتها وزوجها وأولادها البررة. ولقد سمعت الأمير فهد رحمه الله يذكر والدته بكل فخر واعتزاز، ويقول عنها إنها منبع حب لا ينضب. وكان حديثنا آنذاك عن الأمهات. وقلت له إن العرب على عكس ما يتردد في الثقافة المحلية، تحترم الأم وتنزلها منزلة عالية، بل إن البعض ينتسب لأمه، ولدينا في التراث العربي شعراء وقادة وسلاطين وعلماء ينتسبون إلى أمهاتهم. وهو قال لي - رحمه الله - يكفي الأم منزلة أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: إن الجنة على قدرها وجلالها تحت أقدام الأم.
والواقع أن فقدان أحد الوالدين أمر جلل، وبلية كبيرة، على أن البلايا على قدر الرجال. وأنتم يا سلمان وأبناء سلمان أحسبكم من أعظم الرجال. ونسأل الله لكم جميعاً أن يجعل لكم من أمركم يسرا، ونسأل الله أن "يجعل لها من أمرها يسرا" ولا نقول إلا كما يقول السلف الصالح: المؤمن هو من إذا اشتد البلاء زاد ايماناً واحتساباً وتسليماً. آمنا بك يالله واحتسبنا مصيبتنا وسلمنا تسليماً، فاغفر لأم فهد وتقبلها قبولاً حسناً، وألهم أهلها وإيانا جميل الصبر والسلوان.
أميرنا المحبوب والأمراء الأصدقاء أبناء الفقيدة: ليس في الدنيا ولا في الآخرة أفضل من العارفين بالله، وأنتم وأيم الحق منهم. ومن مسارب المعرفة العيش مع الله بنفس طيبة سليمة، وهذا ما نشهده ونعرفه عنكم. ومن كان هذا ديدنه خفت عليه عوادي الدهر وبلاياه. وكان الحسن البصري يقول: كانوا يتساوون في وقت النعم فإذا نزل البلاء تباينوا. وما أخالكم إلا متميزين، فصبراً جميلاً يا آل سلمان فأم فهد قد قضت، ولكنها باقية في قلوبكم وقلوب كل من عرفها أو قرب منها.
وإني وأنا أعزيكم لا أجد إلا كلمات تُنسب لطبيب العرب يعقوب الكندي حيث يقول: (أسباب الحزن فقد محبوب أو فوت مطلوب، ولا يسلم منهما إنسان، لأن الثبات والدوام معدومان في عالم الكون)، ومصابكم اليوم مصاب الأسرة السعودية من البحر إلى البحر. والله إني لأعرف مقدار الشجى والأسى، وأعرف صعوبة السلوان. ولا نقول إلاّ ما يقوله عباد الله الصالحون. وأدعو الله جلت قدرته أن يتغمد الفقيدة بواسع رحمته، ويسكنها فسيح جناته. إنا لله وإنا إليه راجعون.