Author

الداخل مولود!

|
لم تحصل الصحافية الأمريكية نيلي بلاي على وسام الريادة الصحافية النسائية في أمريكا لمجرد كونها من أوائل النساء اللاتي اقتحمن مجال الصحافة في نهاية القرن الـ 19، في وقت لم يكن لهنّ مكان ولم يعترف الرجال بأهليتهن لهذه المهنة. نيلي أو كما سُجل اسمها رسمياً في شهادة الميلاد إليزابيث جاين كوشران كانت رائدة التقارير الصحافية السرية أو كما تسمى باللغة الإنجليزيةUndercover Journalism إذ أنجزت مهمتها الصحافية الأشهر والأنجح متخفية في سبيل التحقيق حول الممارسات الخاطئة وأذية نزلاء مأوى الأمراض العقلية في نيويورك "بلاكويل أيلاند". ولكن كيف كانت صيغة هذا التخفي؟ اضطرت نيلي بلاي لادعاء الجنون كي يتم إيداعها في المأوى، وطريقها إلى هذا المكان كان محفوفاً بالخطر كونها كانت معروفة لدى بعض رجال الأمن والصحافيين أمثالها. احتاجت إلى أن تراوغ وتختار بعناية مكانا مكتظاً بالسكان ليكون مسرح التمثيل الضخم، ففي سكن مخصص للسيدات المقيمات للعمل أو زوار المدينة حجزت غرفة وانتقلت إليها. وبعد سلسلة من المواقف المحبوكة بعناية وجدت نفسها مع مديرة السكن لدى القاضي الذي لا يمكن إيداع أي مريض في المأوى إلا بعد حكمه عليه رسمياً بالجنون! في أيلول (سبتمبر) من عام 1887 أودعت نيلي في مأوى بلاكويل أيلاند بأمر من القاضي، وهناك ستقضي عشرة أيام من الجحيم كما وصفتها في كتابها "عشرة أيام في بيت للمجانين" Ten Days in a Mad-House وبينما كانت تعبر البوابة الرئيسة للمكان حدثت نفسها "من يدخل المكان يترك الأمل خلفه". في تقريرها الصحافي لجريدة "وورلد" World الذي تحول لاحقا ذلك العام إلى كتاب مدعم برسوم توضيحية أنجزتها بلاي في كراسها، تصف نيلي بدقة أنها لم تكن وحدها العاقلة في ذلك المأوى، النساء كنّ يودعن فيه لأسباب أخرى عدا الجنون كونهنّ لا يتقن اللغة الإنجليزية أو ببساطة يعشن في فقر مدقع! من خلال تصوير بلاي للحياة خلف جدران بلاكويل تؤكد أنّ السيدات اللاتي لم يعانين مشكلات عقلية من قبل تحولهن الظروف إلى مجنونات بامتياز: "تأخذ امرأة عاقلة وصحيحة ذهنياً، تجلسها دون حراك على كرسي قاس من الخشب بلا مسند للظهر بين الساعة السادسة صباحاً والثامنة مساء وتطلب منها الصمت التام، دون مادة للقراءة أو أي خبر عن العالم الخارجي، عاملها بسوء وأطعمها بسوء وانظر كيف سيحولها ذلك إلى حطام جسدي وعقلي خلال شهرين فقط". ولأنها كانت عاقلة وتعي ما يحدث حولها كان وقع المناظر على نفسها أشدّ، حتى وإن كانت تشكك في الطريقة التي ستخرج بها من المأوى، لكنها كانت متأكدة من أنها ستترك المكان بمساعدة جريدتها ورجال الأمن إن تطلب الأمر ذلك. كانت طوال تلك الأيام تفكر حسناً وماذا سيحلّ بالنساء الأخريات إذا خرجت وتركتهنّ؟ كان الألم يتضاعف وهي تشاهد الممرضات والأطباء يعاملون النزيلات من سيئ إلى أسوأ، خصوصا اللاتي كنّ يدافعن عن أنفسهن بعنف وسلسلة العنف تمتد. أعتقد أن أجواء المكان طبعت للأبد في ذهن نيلي بلاي، الأروقة الباردة الرمادية والأسرة القاسية التي تجبرها على خوض حرب طويلة مع الأرق، الجرذان والطعام الذي لا يمكن تسميته بذلك وحمامات الماء الباردة التي تعجّل الإصابة بأمراض الرئة. بعد خروجها من المأوى مثلت نيلي بلاي أمام هيئة التحكيم الكبرى في نيويورك للإدلاء بشهادتها على ما رأته والإجابة عن الأسئلة التي آمنت بأنها من خلالها ستتمكن من إنقاذ اللاتي تركتهن وراءها. تلت ذلك زيارة خاصة للمأوى لتحقيق أوسع من قبل الجهات الرسمية، علمت نيلي أن العاملين هناك قد استعدوا للزيارة. وعلى الرغم من المظهر شبه المثالي الذي ظهر عليه المكان أمام التحقيق الرسمي إلا أنها حصلت على ما أرادت وأُقرّت التعديلات المقترحة، إضافة إلى رفع الميزانية المخصصة لملاجئ ومراكز المرضى العقليين إلى مليون دولار، وهو ما لم يحصل من قبل! لم تكتف الصحافية الرائدة بهذا النجاح فقد كانت لها أعمال أخرى كالرحلة التي قطعتها حول العالم في 72 يوماً في محاولة للاقتباس من الكتاب "حول العالم في 80 يوماً". التحقيقات الصحافية السرية بدأت من عصر نيلي بلاي وما زالت حتى يومنا هذا تجريها كبريات الصحف والقنوات الإخبارية الشهيرة حول العالم. شجاعة الآنسة بلاي صنعت تغييراً ولم تجعلها صحافية حقيقية فقط، بل إنسانة حقيقية بحسّ عال بالمسؤولية تجاه الآخرين.
إنشرها