عن سيرة من نوع آخر

لم يسبق لي قراءة كتاب بالطريقة التي قرأت بها كتاب إبراهيم نصر الله "السيرة الطائرة"!
ما حصل أنني قرأته مرتين؛ مرّة أولى قرأت نصفه العلوي ومرة ثانية النصف السفلي من الكتاب، كيف؟ في هذه السيرة الملونة المحمولة على أجنحة الطائرات يبدأ إبراهيم نصر الله كل فصل بمقطع شعري، المقاطع الشعرية هذه تحتل الجزء العلوي من الصفحة، ويمكن للقارئ الانتهاء من فصول الكتاب بالتهامها دفعة واحدة.
للوهلة الأولى تبدو هذه السيرة الذاتية غير تقليدية فيما يختص بالترتيب الزمني للأحداث والمكاني كذلك، لكننا نتمكن من تحديد وجهة أو خط عريض تسير عليه، وهذه الوجهة هي كولومبيا التي يسافر إليها الروائي والشاعر الفلسطيني لإحياء أمسية شعرية عالمية.
بينما هو يحلق بين السماء والأرض يستعيد ونستعيد بصحبته رحلاته السابقة، وبين مطار وآخر يتحدث عن كتبه وحياته بشكل عام ولا ينسى قضيته وشعبه المسافر في الأرض.
يقول في جزء من الكتاب:
" لعل أحداً لن يستطيع أن يتصور كيف يمكن أن يبدأ شعبٌ ما الحياة ثانية، بعد أن جرّد من أرضه وحقله وسمائه وشوارعه ومزارعه ومدنه وسواحله وسياراته وبواخره ومصانعه وصحفه ومدارسه ومقاهيه وملاعبه وقطاراته ومطاراته وماعزه وأبقاره وحميره وخيوله، وما يستر روحه من أحلام وجسده من ملابس، كيف يمكن أن يبدأ ثانية من هذا الصفر الكبير ويتجاوز هذه المحنات الكبرى ويستطيع أن يؤسس حياة جديدة وأحلاماً وذاكرة في المستقبل، ويحول فكرة العودة إلى وطنه إلى عقيدة".
إبراهيم نصر الله يحمل فلسطين في قلبه، في شعره، وفي خطوط كفّه، وبذكر الكفّ أتذكر قصيدة "اليد" التي يلقيها في أكثر من أمسية ويعرفها جمهوره بأكثر من لغة ويعرض في الكتاب مقاطع منها.
حكاية هذه القصيدة طريفة يرويها الكاتب في أحد فصول السيرة، كان الكاتب في أحد المطاعم التي كانت الورقة التي توضع تحت الصحون توضح خطوط اليدّ وما الذي يعنيه كلّ خط، وهي - على حدّ قوله - الطريقة المثلى لإلهاء رواد المطعم في التأمل لحين وصول طعامهم.
ما كان منه إلا أن سحب الورقة وأخرج قلماً وكتب على الورقة قصيدة اليدّ وأنهاها قبل وصول الطعام لتصبح قصيدته الأشهر، وخُصصت لها قراءة فنية جمالية فلسفية، إضافة إلى كثير من الكتابات حولها.
اليدّ التي يقول في مقطع منها:
هي اليدُ
طيبة حين نُكسر
دافئة حين نبكي
وعاشقة حين نتعبْ..
هذا الاحتفاء باليدّ ليس غريباً على الكاتب الذي، إضافة إلى موهبته الكتابية يملك عين مصور محترف وعدسة تسجل رحلاته. بدأ الأمر كهواية وانتهى بمعارض شخصية في بقاع مختلفة، اليدّ التي بدأت ذلك كلّه، اليد التي أمسكت بالقلم، اليد التي تصفحت الكتب، اليد التي تصافح - مادياً ومعنوياً - تفاصيل الحياة التي تختزلها كلماته.
إبراهيم نصر الله يأتي ليؤكد المبدأ الذي أؤمن به، لا عيب في أن تبرع في أمورٍ كثيرة، فالتخصص والاحتكار يقتل الإبداع - أحيانا.
في سرده لسيرته - المختصرة - يذكر إبراهيم نصر الله تلك المواقف التي يصبح فيها في مواجهة مع أولئك الذين يفترضون حقّ الاحتلال الصهيوني في سلب أرض فلسطين واضطهاد أهلها.. هذه المواجهات الباردة التي تباغته على شكل سؤال خاطف خلال أمسية، أو محادثة سريعة في وسيلة نقل بين مدينة وأخرى، ويخرج فيها منتصراً بردّ يفحم السائل بكل أدب.
"السيرة الطائرة" كتاب يُقرأ من مداخل متعددة توازي تعددية أذواق القرّاء واهتماماتهم، بعد الانتهاء من هذا الكتاب أقول إنّ كلاً منّا سيجد مدخله الخاصّ وسيخرج بعد القراءة مُلهماً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي