الغاز الأمريكي بين الحقيقة والخيال والمؤامرة
هناك ثورة ''غازية'' في الولايات المتحدة، أبطالها آلاف المبدعين ومئات من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تستخرج الغاز من صخور السجيل وطبقات الرمال المتراصة. لكن للثورة أيضا معارضون ومغرضون ومشككون، تماما كما هي الحال مع أي ثورة. الفرق أن ''الثوار'' يعملون، بينما ليس لدى المغرضين إلا الكلام. المشكلة أن هذا ''الكلام'' قد يكون مؤثرا إذا وجد آذانا صاغية عند أصحاب القرار.
هل تعلم، عزيزي القارئ، أن مساهمة صناعة الغاز الأمريكية في الناتج المحلي الأمريكي أكثر من ثلاثة أضعاف موازنة السعودية، أكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط؟ هل تعلم أن عدد الوظائف التي خلقتها هذه الصناعة يتجاوز عدد السكان الوطنيين لبعض دول الخليج مجتمعة؟ هل تعلم أن هذه الصناعة ولدت أكثر من ألفي مليونير خلال السنوات الخمس الماضية؟ لقد نتج عن هذه الثورة زيادة إنتاج الغاز بأكثر من 40 في المائة منذ عام 2006، وتضاعفت الاحتياطيات، وبدأت الولايات المتحدة تكتفي ذاتيا، وبدأت تفكر جديا في تصدير الغاز إلى شتى أنحاء العالم عن طريق تحويله إلى غاز مسال. إنها ثورة لأن الولايات المتحدة كانت تعاني شحا في إمدادات الغاز، وبدأت ببناء عشرات المحطات لاستيراد الغاز المسال من قطر وغيرها، وارتفعت أسعار الغاز إلى 14 دولارا لكل مليون وحدة حرارية. لكن الجمع بين تقنية الحفر الأفقي والتكسير الهيدروليكي فجر ثورة الغاز، وانقلبت الأمور رأسا على عقب، فزاد الإنتاج بدلا من أن ينخفض، وتحول العجز إلى فائض، وانخفضت الواردات، وبدأ الآن تحويل محطات استيراد الغاز المسال إلى محطات تصدير، وانخفضت الأسعار إلى نحو أربعة دولارات لكل وحدة حرارية. يذكر أن الإنتاجية تضاعفت عدة مرات في السنوات الأخيرة. ويكفي أن نذكر هنا دليلا واحدا وهو أن عدد الحفارات اللازمة للحفاظ على إنتاج الغاز في الولايات المتحدة كان في حدود 1300 حفارة منذ ثلاث سنوات، الآن ارتفع الإنتاج، وكل ما تحتاج إليه الولايات المتحدة نحو 700 حفارة للحفاظ على هذا المستوى من الإنتاج. بعبارة أخرى، إنتاجية كل بئر أو كل حفارة زادت بشكل هائل.
حملة التشكيك
لم تكن سلسلة المقالات التي نشرتها صحيفة ''النيويورك تايمز'' أخيرا عن غاز السجيل في الولايات المتحدة الأولى من نوعها من حيث إبراز المساوئ والسلبيات، أو التشكيك في الاحتياطيات، أو الجدوى الاقتصادية لاستخراج هذا النوع من الغاز، فقد سبقها مقالات في بعض الصحف، كما سبقها فيلم وثائقي مشهور اعتقد منتجوه وممولوه أنه قنبلة ستنفجر في وجه صناعة الغاز الأمريكية. وكان لمقالات ''النيويورك تايمز'' صدى في العالم العربي، حيث استغله المعارضون للولايات المتحدة، ومن يؤمنون بذروة إنتاج النفط، ومن يؤمنون بنظرية المؤامرة للتأكيد على صحة أفكارهم، وهم يبعدون آلاف الأميال عن مكان الحدث، وعن الحقيقة أيضا.
وقد ذكرتني ردة الفعل هذه بلقائي مع مسؤولين كبار في شركة نفطية خليجية منذ نحو عام ونصف عام تقريباً في مقر الشركة، حيث أثار بعضهم شكوكه حول غاز السجيل الأمريكي، وبدأ البعض يتطرق للأدلة، فإذا بهم كالغريق يتمسكون بأي قشة. وما أثارني أن بعضهم قال إن ما تقوله الولايات المتحدة عن غاز السجيل هو كذبة كبيرة، وإنها محاولة يائسة لتخفيف الاعتماد على النفط العربي. ما أثارني في الموضوع أن المتحدثين بنظرية المؤامرة هذه من الحاصلين على شهادات عليا من الجامعات الأمريكية ويشغلون مناصب مهمة في شركة نفط وطنية. لم أنبس ببنت شفة، والهجوم على غاز السجيل يزداد حدة، وبعض الحاضرين بدأ يغرق في نظرية المؤامرة، حتى سألني أحدهم عن رأيي في الموضوع. كان ردي مقتضباً نوعا ما: ما أدري عما تقولون، الغاز الذي تتكلمون عنه تحت بيتي في شمال تكساس، وأملك هذا الغاز، وتقوم شركة مشهورة بإنتاجه، وأحصل منها على ريع! أنتم تقرأون الجرائد، وأنا أوقع عقودا! أما قولكم إنه مؤامرة للتخلص من الاعتماد على النفط العربي فإن الغاز ليس بديلا للنفط، ونحو 97 في المائة من الكهرباء المولدة في الولايات المتحدة تأتي من الغاز والفحم والطاقة النووية، بينما يأتي 3 في المائة فقط من النفط.
إن أي متتبع لشؤون صناعة الغاز يستنتج بسهولة أن أغلبية المعلومات التي وردت في جريدة ''النيويورك تايمز'' كانت خاطئة، وبعض التصريحات لبعض المسؤولين والمختصين وضعت ضمن إطار معين يخدم وجهة نظر الجريدة، وتم تجييرها بشكل فاضح لدرجة أن أحد المختصين الذين ذكر اسمهم اضطر إلى إرسال رسالة إلى وسائل الإعلام ينتقد فيها ''النيويورك تايمز'' لأنها استغلت تصريحاته بشكل خاطئ. كما استغلت الصحيفة أسلوب الإيحاء للقارئ بشكل بشع. مثلا، المقال يتعلق بغاز السجيل وربحية الشركات العاملة في هذا المجال. في هذا السياق يذكّر الكاتب القراء بإفلاس شركة إنرون عام 2011، كما يذكره بشركة شل التي اعترفت عام 2004 بأنها بالغت في حجم احتياطياتها النفطية، وبالتالي قامت بتخفيض احتياطياتها. هذا الإيحاء يوحي بأن الشركات المنتجة للغاز تقوم بما قامت به إنرون وشل، وأن مصيرها الإفلاس أو تخفيض الاحتياطيات. إن عمليات الإيحاء بهذه الطريقة لا تتجاوز حدود الصحافة الصفراء.
وقامت العديد من الهيئات والشركات بانتقاد جريدة ''النيويورك تايمز'' انتقادا لاذعا شكك في حرفيتها، خاصة أن الصحافي أشار إلى رسائل إلكترونية لمسؤولين في إدارة معلومات الطاقة من دون ذكر أي اسم، بينما ذكر تاريخ يوم إرسال الرسالة، لكنه قام عمداً بإخفاء السنة، وهو أمر يخالف قواعد المهنة، ويشكك في مصداقية التغطية، ويشكك في حرفية الصحافي. فقد تبين أن هذه الرسائل الإلكترونية قديمة، بعضها من عام 2007، بينما تم الإيحاء بأنها من نيسان (أبريل) الماضي. وأشارت رسالة إلى وسائل الإعلام من شركة آي إتش إس، التي ورد اسمها في المقال، أن الرسائل الإلكترونية التي اعتمدت عليها الجريدة قديمة وأن الأحداث والتطورات في السنوات الأخيرة أثبتت خطأ البعض الذين لم يكن لديهم معلومات كافية عن غاز السجيل. وذكرت الرسالة أن التصريح الصحافي الذي نسب إلى موظف في شركة آي إتش إس بأن الاستثمار في الغاز عملية نصب، مشيرا إلى أن ''أسلوب بونزي'' غير صحيح، لأن هذا الشخص غادر الشركة منذ زمن بعيد. والأمر نفسه ينطبق على المسؤول الذي قيل إنه من البنك المركزي، حيث تبين أنه من حماة البيئة ومعاد لصناعة الغاز، وتم تعيينه فيما بعد مسؤولا في فرع البنك المركزي في دالاس، وهو الفرع نفسه الذي أصدر دراسة يشيد فيها بآثار غاز السجيل ومساهمته الاقتصادية. بعبارة أخرى، لا علاقة للتصريح بالبنك المركزي! وكانت شركة إكسون موبيل قد ذكرت أن الصحافي لم يتصل بها، وهي أكبر منتج للغاز في الولايات المتحدة. خلاصة الأمر أن للصحافة دورا إيجابيا في المجتمع، لكن عدم الالتزام بالأعراف الصحافية سلاح ذو حدين، غالبا ما يرتد على صاحبه، وكل ما علينا أن نتذكر سبب إغلاق أكبر صحيفة بريطانية يوم الأحد الماضي.