Author

شيخوخة السكان في العالم

|
تشير الدراسات الحديثة عن السكان أن العالم يشهد الآن ظاهرة لم يعهدها من قبل، وهي بقاء عدد أكبر من سكان العالم حاليا حتى سن متقدم بعد الإحالة إلى التقاعد (60 عاما)، لترتفع بذلك نسب مجتمعات الشيوخ إلى إجمالي السكان في العالم أجمع. فعلى مدى التاريخ الإنساني كله كانت نسبة صغار السن أكبر من نسبة كبار السن في كافة المجتمعات السكانية في العالم، إلا أن ظاهرة شيخوخة السكان تقلب هذه الاتجاهات التي عاشها العالم فيما سبق، لدرجة أن الأمم المتحدة تتوقع أن تتجاوز أعداد الشيوخ من السكان في عام 2050 أعداد الشباب في العالم لأول مرة في التاريخ، وبالتالي يتشوه شكل الهرم السكاني في العالم، حيث تصبح قاعدته أقل من قمته، وهي ظاهرة في منتهى الخطورة. الهرم السكاني هو عبارة عن تمثيل بياني للسكان في الدولة حسب العمر والنوع، ويسمى بالهرم لأن الصورة الكلاسيكية للمجتمع الذي ترتفع فيه معدلات الخصوبة ومعدلات الوفيات، والتي سادت العالم حتى وقت قريب، عبارة عن هرم قاعدته عريضة بسبب ارتفاع معدلات المواليد ثم تأخذ شكل الهرم بسبب ارتفاع معدلات الوفيات، ويعد تقسيم المجتمعات حسب هيكل العمر/ النوع مهما من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. حيث ينظر إلى صغار السن نظرة مختلفة عن كبار السن، نظرا لطبيعة المهام التي توكل لكل منهما، ويعتمد وصف المجتمع بأنه مجتمع صغار السن أو مجتمع كبار السن على نسبة السكان في الفئات العمرية المختلفة، فالمجتمع الذي تزيد فيه نسبة السكان الأقل من 15 سنة عن 35 في المائة من مجموع السكان يعد مجتمع صغار السن، أما المجتمع الذي تزيد فيه نسبة السكان الأكبر من 65 سنة عن 10 في المائة من مجموع السكان فيعتبر مجتمع كبار السن. أكثر من ذلك فإنه عندما تميل نسبة السكان صغار السن نحو التزايد فإننا نصف هذا المجتمع بأنه يميل إلى الصغر من حيث السن، والعكس مع ميل نسبة السكان الكبار في السن نحو الزيادة فإننا نصف المجتمع بأنه يميل إلى الكبر من حيث السن. #2# ويعطي هذا التقسيم معلومات مهمة حول معدل الإعالة في الاقتصاد، وللتعبير عن هذا المقياس بدقة فإننا ننسب السكان الذين يمارسون نشاطا اقتصاديا إلى السكان الذين لا يمارسون أي نشاط اقتصادي، حتى ولو كانوا في سن العمل، ولكن نظرا لصعوبة الحصول على البيانات بهذا القدر من التفصيل فإننا عادة ما نستخدم بيانات السكان حسب التوزيع العمري لحساب معدل الإعالة، وطبقا لهذا التعريف فإن معدل الإعالة يساوي عدد السكان الذين لم يبلغوا بعد سن العمل مضافا إليه عدد السكان الذين بلغوا سن التقاعد إلى إجمالي عدد الأشخاص في سن العمل، ويوضح الناتج عدد المعالين من السكان لكل شخص في سن العمل. ويعبر معدل الإعالة عن مدى العبء الذي يلقيه السكان في الفئات العمرية التي لا تعمل على باقي الفئات في المجتمع، وكلما زاد معدل الإعالة عنى ذلك أن هناك عددا أكبر من السكان يجب أن يعالوا بواسطة كل شخص في سن العمل، والعكس كلما قل معدل الإعالة عنى ذلك انخفاض عبء الإعالة الواقع على كل شخص في سن العمل، وكلما ارتفع معدل الإعالة عنى ذلك أيضا أن الأفراد العاملين سينفقون أكثر ويدخرون بقدر أقل، كما أن إيرادات الحكومة لابد أن تذهب نحو الإنفاق على مشاريع توفير الغذاء، والتعليم، بدلا من الإنفاق على مشروعات البنية الأساسية مثل الكهرباء والماء والطرق، والسكك الحديدية... إلخ. غير أن انتشار ظاهرة الشيخوخة دفع بعلماء السكان نحو تطوير مقاييس أكثر مناسبة للظاهرة، وبدلا من الحديث عن معدلات الإعالة، قام العلماء بتطور مقياس "معدل الدعم" كأساس أكثر مناسبة لظاهرة انتشار الشيخوخة، ويحسب معدل الدعم من خلال قسمة عدد الشيوخ على عدد العمال، وهو ما يعكس عدد العمال لكل متقاعد، ومع تزايد أعداد الشيوخ يميل هذا المعدل نحو التراجع، والعكس صحيح. وتشير الدراسات إلى أن هناك قوتين وراء تصاعد ظاهرة الشيخوخة في العالم، الأولى هي تراجع مستويات الخصوبة، حيث تميل الأسر في جميع دول العالم حاليا إلى تفضيل إنجاب عدد أقل من الأطفال، وهو ما يقلل من نسبة السكان صغيري السن إلى إجمالي السكان، فقبل الستينيات من القرن الماضي كانت معدلات النمو السكاني في جميع دول العالم تقريبا تفوق نسبة 2.1 في المائة، وهي الحد الأدنى من معدل النمو السكاني اللازم لثبات أعداد السكان على حالهم، أو ما يطلق عليه معدل النمو الإحلالي. اليوم معدلات النمو السكاني في الكثير من دول العالم المتقدم أقل من هذا المعدل، على سبيل المثال 1.4 في المائة في إيطاليا وإسبانيا، و1.3 في المائة في ألمانيا واليابان، وهو ما يعني تراجع أعداد السكان في تلك الدول. اليوم أيضا تنخفض معدلات الخصوبة بصورة واضحة في الدول الناشئة والنامية إلى معدلات قريبة من معدلات الإحلال. القوة الثانية وراء هذه الظاهرة هي ارتفاع متوسط توقع العمر للسكان، حيث أصبح الناس يعيشون اليوم بصورة أكبر ولأعمار أطول، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة السكان كبار السن. فقد ارتفع توقع العمر للإنسان خلال الـ 60 عاما السابقة بصورة أكبر مما تحقق للإنسان خلال الستة آلاف عاما السابقة. فمتوسط العمر المتوقع للفرد في الدول المتقدمة يدور حاليا حول 80 عاما، ولم تتوقف هذه الظاهرة عند الدول المتقدمة، وإنما أخذت أيضا تنتشر في الدول الناشئة، على سبيل المثال ارتفع متوسط العمر المتوقع للفرد في الصين من 41 عاما في عام 1950 إلى 73 عاما اليوم، ومن 51 عاما في عام 1950 إلى 76 عاما في البرازيل، ومن 48 عاما إلى 79 عاما في كوريا الجنوبية على التوالي، كما انتقلت هذه الظاهرة أيضا إلى الدول النامية، وإن كان ذلك بصورة أقل نسبيا. ينظر علماء السكان إلى شيخوخة السكان على أنها أحد الانتصارات المهمة التي حققتها الإنسانية منذ سكن البشر سطح هذا الكوكب، غير أن هذا الانتصار يضع أيضا تحديات ضخمة أمام الإنسان في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، حيث يترتب على ارتفاع معدلات الشيخوخة بشكل عام العديد من الآثار السلبية أهمها: 1. بطء النمو الاقتصادي نظرا لارتفاع طبقة المستهلكين في الاقتصاد وتحويل الإنفاق العام من الإنفاق على المشاريع التي تدفع النمو إلى الإنفاق على كبار السن، وبشكل عام تؤثر ظاهرة شيخوخة السكان في توزيع الناتج بين الفئات صغيرة السن وكبيرة السن، ولذلك فإن الظاهرة يترتب عليها آثار عميقة على قدرات المجتمع الإنتاجية، حيث تعني تحول جانب كبير من السكان من منتجين إلى مستهلكين بشكل صاف، وهو ما يؤثر بشكل سلبي في قدرات المجتمع الادخارية، ومن ثم الاستثمارية، وبالتالي آفاق النمو في اقتصاديات العالم. 2. انتشار معدلات الفقر بين كبار السن، خصوصا بين تلك الفئات التي لم تستعد لفترات عمرها المتقدم بالمدخرات والأصول اللازمة لدعمها ماديا، ومما لا شك فيه أن جهود خفض معدلات الفقر بين كبار السن ستكون مكلفة جدا للحكومات من الناحية المالية. 3. عدم العدالة بين الأجيال، حيث يتم الإنفاق بصورة متزايدة على الفئات من كبار السن، مقارنة بالفئات ذات الفئات العمرية الأقل، حيث يؤدي ارتفاع نسبة كبار السن إلى زيادة الحاجة نحو المزيد من العناية الأسرية طويلة الأجل ربما في مؤسسة تكلفتها مرتفعة على الأبناء. أكثر من ذلك ربما يكون بعض كبار السن دون أبناء أو توفي أبناؤهم الذين يقدمون لهم الدعم المالي لتكلفة الرعاية المناسبة، ومثل هؤلاء سيفتقدون الرعاية الأسرية المناسبة. أكثر من ذلك يمكن أن يواجه الأبناء مشكلة تعدد الآباء، فربما تواجه الأسرة احتمال بقاء والدي الزوج والزوجة معا على قيد الحياة، وهو بلا شك عبء ثقيل جدا على الأسرة. لذلك لابد من وجود نظام للدعم المالي الحكومي لمثل هذه الحالات الحرجة. 4. عدم كفاية الاستثمار المادي والبشري، نظرا لارتفاع معدلات الاستهلاك وانخفاض معدلات الادخار، ومن ثم الاستثمار. 5. ارتفاع الإنفاق الحكومي على كبار السن بصفة خاصة الإنفاق على خدمات الرعاية الصحية، وربما تكلف الرعاية الصحية لكبار السن تكاليف أعلى من تلك التي تنفق على الشباب، كما ستضطر الحكومات إلى إرساء نظم للتحويلات المالية العامة غير قابل للاستدامة على المدى الطويل نظرا لتكاليفها الضخمة. على سبيل المثال يوضح الجدول التالي تقديرات النفقات التي ستوجهها حكومات العالم نحو كبار السن كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ويتضح من الجدول أنه بحلول عام 2050، ستضطر الدول المتقدمة إلى تخصيص نحو 27 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق على كبار السن، وهي نسبة مرتفعة للغاية، بينما يتوقع أن تصل هذه النسبة إلى نحو 17 في المائة في الدول الناشئة، وكذلك في دول أمريكا اللاتينية، أما في آسيا حيث تنخفض مدفوعات الرعاية الاجتماعية بشكل عام فيتوقع أن تقتصر نسبة النفقات المرتبطة بالشيخوخة على 8.2 في المائة، وبالنسبة للسعودية، يتوقع أن يتم إنفاق 12.6 في المائة من الناتج المحلي بها على الفئات كبيرة السن في عام 2050. جميع السيناريوهات المتاحة حول آفاق نمو أعداد كبار السن تتوقع أن يتزايد عدد السكان ممن هم فوق سن الـ 60 عاما في جميع أنحاء العالم على نحو واضح، غير أن أكثر الأماكن نموا هي في الدول النامية، حيث الاستعداد لهذه الظاهرة يعد محدودا. معنى ذلك أن شيخوخة السكان والتي ستمثل مشكلة في الدول المتقدمة في المستقبل ربما تكون آثارها أعمق في حالة الدول النامية، حيث تنمو أعداد كبار السن فيها بصورة كبيرة قبل أن تكون تلك الدول مستعدة ومؤهلة اقتصاديا لتحمل أعباء هذه الظاهرة، مثلما هو الحال في الدول المتقدمة. ولا شك أن تلك هي أحد أهم التحديات التي تواجه صانعي السياسة في هذه الدول، ومما يزيد الطين بلة عدم وجود السياسات المناسبة للتعامل مع الظاهرة في تلك الدول، ونتيجة لذلك يتوقع أن يتحول مئات الملايين من كبار السن إلى فقراء محرومين من المشاركة الاجتماعية ومن العطاء الذي يمكن أن يقدموه لأسرهم، ولمجتمعاتهم ولدولهم. من المؤكد أنه مع تصاعد حدة المشكلة ستلجأ الدول إلى الكثير من الحلول غير التقليدية للتعامل مع المشكلة وإلى إعادة هيكلة طريقة الاستفادة من الطاقات البشرية كبيرة السن، فمن المؤكد أن المستقبل سيشهد ارتفاعا في سن الإحالة إلى التقاعد، وهو ما لجأت إليه بعض الدول حاليا، وربما تخصيص مهن محددة لكبار السن كل حسب قدراته العضلية والعقلية أو مهام محددة يقوم بها هؤلاء، كتلك التي كانت تخصص لعمالة الأطفال في الماضي. الأمر المثير للاهتمام أن جماعات حقوق الإنسان بدأت في الاستعداد هي الأخرى لتلك الحقبة وهناك مطالبات حاليا بإقرار ميثاق لحقوق كبار السن في تأمين دخل مناسب لهم، وحقوقهم في أن ينخرطوا في عمل يليق بهم ويتوافق مع قدراتهم وخبراتهم ويستوفي احتياجاتهم النفسية بأن يظلوا عنصرا فعالا في المجتمع لا كما مهملا فيه، وحقهم في الحصول على الرعاية الصحية المناسبة، خاصة وأن هناك عدد أكبر من النساء يبقين على قيد الحياة حتى سن متأخرة اليوم، فضلا عن المطالبة بحماية الشيوخ ضد الاستغلال المالي والبدني والإيذاء النفسي... إلخ، وحق الشيوخ في الضمان الاجتماعي وتأمين حد أدنى من الدخول للحيلولة دون سقوط الشيوخ وأسرهم في الفقر. والآن ما هي خلاصة ما سبق بالنسبة للقارئ؟ الإجابة هي ينبغي أن تعلم بأنك ربما تعيش عمرا أكبر مما عاشه والداك، الإحصاءات تشير إلى ذلك، وأنك ربما تقضي وقتا أطول في سن التقاعد، وأن التقاعد أصبح يحمل مخاطر أكبر من أي وقت سبق، ومن ثم فإنك تحتاج إلى أن تخطط لحياتك المستقبلية اليوم بشكل أفضل. فقد لا تتمكن الحكومة في المدى الطويل من الإنفاق على كبار السن، وقد لا يتمكن ابنك من الإنفاق عليك في كبرك، لأنه سيكون لديه أعباء مالية هو الآخر، وقد تضطر إلى العيش في فقر عندما تنفد مواردك المالية، ومن ثم وجب عليك أن نخطط لحياتك المستقبلية اليوم بصورة أفضل، وكنصيحة عامة حاول أن تحتجز من دخلك اليوم لتنفق على نفسك في المستقبل وتذكر أنه في مرحلة الشيخوخة لا ينفع الندم، لأنك لن تكون قادرا على فعل شيء وقتئذ. راجع نفقاتك وحاول أن تختصر ما تشاء من إنفاقك، وادخر اليوم لمستقبلك، وعليك أن تحدد بصورة رشيدة ماذا تستهلك من دخلك وماذا تدخر. فمما لا شك فيه أن الادخار في المراحل الأولى من العمر سيجنبك الكثير من المخاطر، لأن هذه المدخرات يمكن أن تؤمن لك حياة أكثر استقرارا من الناحية المالية في أرذل العمر، كما أن الادخار في المراحل الأولى من الحياة العملية للشخص يضاعف من فرص تأمين احتياجاته المادية في المستقبل، فضلا عن أنه يدعم القدرات المالية للحكومات في التعامل مع الظاهرة.
إنشرها