الرئيس السوري يفقد شرعيته للاستمرار في الحكم

يبدو أن تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بأن الرئيس السوري بشار الأسد فقد شرعيته لم يكن تصريحا عبثيا، وكذلك حديث وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه بأن فرنسا مستعدة لأن تطلب من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الاقتراع على مشروع قرار يدين سورية لقمعها الوحشي للاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية، مؤكدا أن الرئيس السوري بشار الأسد فقد شرعيته للاستمرار في الحكم وأنه حان الوقت لأن يجعل مجلس الأمن الدولي آراءه معلنة، ويبدو أن الإبطاء له علاقة بالانتخابات التركية أيضا ريثما تكتمل.
وعليه فإن التغيير متوقع وفي حال حدوثه قد يفضي إلى اصطفافات إقليمية جديدة تخلق توازنات قوى غير مألوفة في العقدين الآخرين. لهذا نجد تركيا والولايات المتحدة وحزب الله من أكثر القوى، إضافة إلى إسرائيل وإيران التي تهتم بديناميكية ما يجري في سورية وسيناريوهات إقليمية قادمة في حال سقوط النظام السوري.
نبدأ بتركيا التي لها وضع خاص، فرئيس وزرائها حقق شعبية غير مسبوقة في الشارع العربي نتيجة لإعادة توجيه سياسة تركيا الخارجية بشكل مستقل عن حلفائه في البيت الأبيض وتل أبيب، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ لم تتردد الحكومة التركية عن التعبير عن سخطها إزاء سياسة إسرائيل في غزة، وبالفعل وصلت علاقاتهما إلى نقطة هي الأدنى منذ اعتراف تركيا بإسرائيل في عام 1949 بعد اعتداء إسرائيل الوحشي على أسطول الحرية التركي في المياه الدولية في البحر الأبيض المتوسط قبل عام تقريبا. ويشير تقرير واشنطن في أحد تقاريره إلى أن التحولات الدولية وإعادة توجيه تركيا لسياستها الخارجية قد جعلت من واشنطن وأنقرة أقرب إلى المنافسين منهم إلى الحلفاء كما كان في السابق، وخاصة أثناء الحرب الباردة وما تلاها من هيمنة أمريكية تكاد تكون مطلقة على قراري السلم والحرب في الشرق الأوسط، غير أن تلك الهيمنة تعرضت لتحد كبير بعد الحرب على العراق في عام 2003 وتسلم حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحكم في تركيا وصعود التأثير الإيراني في الإقليم.
ميزة تركيا في المعادلة السورية هي أن دمشق تقدر دور أنقرة وتعرف جيدا بأن الأخيرة هي الأكثر قدرة على مساعدتها في الوقت الراهن للخروج من مأزق أصبح يشكل كابوسا ماثلا للعيان للنخب الحاكمة في دمشق. وموقف تركيا هذه الأيام واضح ويعبر عن سخط وربما الشعور بالخذلان من الشريك السوري الذي يعض على الحكم بنواجذه ولا يسمح بأي قدر من الحريات بدليل المعالجة الأمنية والدموية للتظاهرات السلمية التي اندلعت قبل شهرين ونصف الشهر. فأنقرة تطالب سورية بإصلاحات شاملة والسماح بالتعددية السياسية، في حين تحاول دمشق شراء الوقت للتملص من استحقاق بات تجاهله يشكل خطرا كبيرا على بقاء النظام السوري وعلى وحدة وتماسك سورية. وفي هذا السياق هناك اتجاه يرى أن الأسد يستعمل تركيا للتخفيف من الضغط وهو الأمر الذي يثير حفيظة الأتراك الذين باتوا يشعرون بأن العالم يراقب تحركاتهم على الجبهة السورية، فالأتراك نقلوا رأيهم بصراحة للرئيس السوري وقالوا له إنه لا يمكن له البقاء في الحكم دون إصلاحات كبيرة وجريئة. ونقلت صحيفة "توديز زمان" التركية التي تصدر باللغة بالإنجليزية في عددها الصادرة يوم الجمعة الثالث من حزيران (يونيو) أن تركيا لن تسمح لسورية بتوظيفها واستخدامها للالتفاف على موضوع الإصلاح. لتركيا طبعا مصالح متعددة في سورية، غير أن هناك أيضا مخاوف تركية مشروعة من استمرار القمع السوري للشعب ما يدفع العديد من منهم للهروب إلى تركيا بحثا عن ملاذ آمن. وبهذا الصدد كتب البريطاني روبرت فيسك مقالا في صحيفة "الإنديبندنت" البريطانية يفيد فيها أن جنرالات تركيا يعدون خطة عسكرية تقتضي بإرسال جنود أتراك إلى داخل الأراضي السورية لتنظيم ملاذات آمنة استباقا لإمكانية نزوحهم إلى تركيا، وهنا يذكر روبرت فيسك أن هناك مخاوف تركية من إمكانية أن يستغل أكراد تركيا وأكراد سورية الانفلات الأمني ويبدأون بشن هجمات ضد تركيا، فالأتراك جاهزون ـــ حسب روبرت فيسك "للتقدم إلى داخل الحدود السورية حتى القامشلي ومحافظة دير الزور لإقامة ملاذات آمنة". فتخشى تركيا من تحرك الآلاف من أكراد سورية إلى أراض أكراد تركيا التي تقع في جنوب شرق تركيا.
التحرك التركي ـــ المرشح لأخذ منحى أكثر حدة بعد الانتخابات التشريعية التي ستجري في البلاد قريبا ـــ لم يقتصر على إرسال الوفود لبشار الأسد لإقناعه بأخذ إجراءات سريعة وحقيقية لخلق مجتمع سياسي تعددي والبدء فورا بإصلاحات ملموسة، فقد استضافت تركيا مؤتمرا للمعارضة السورية في أنطاليا وأطلق رئيس وزرائها تصريحات لاقت قبولا شديدا لدى المتظاهرين السوريين باستثناء الأكراد منهم الذي ما زالوا ينظرون لأنقرة كعدو شرس للأكراد. فالمؤتمر يحمل رسالات ذات دلالات واضحة، وهناك من يشير إلى أن ثمة اتفاقا بين الولايات المتحدة وتركيا لوضع خريطة طريق للتعامل مع الأزمة السورية من المنتظر أن تلعب بها تركيا دورا بارزا لكن كل شيء مؤجل إلى ما بعد الانتخابات التركية المزمع عقدها في هذا الشهر.
ويبدو أن واشنطن بدأت التسخين لسياسة ومقاربة جديدة للتعامل مع الأسد، وقد صرحت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بأن صبر الولايات المتحدة على بشار الأسد بدأب النفاد وأن شرعية النظام السوري على المحك وبدأت تقترب من الزوال مذكرة بشرعية القذافي الذي فقد الشرعية الدولية وما يعنيه ذلك من سياسات غربية ستؤرق مضاجع النخب الحاكمة في سورية. ونقلت صحيفة "الشرق الأوسط" في عددها الصادرة يوم الجمعة ما يفيد بأن الرئيس باراك أوباما أعطى بشار الأسد خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يقود عملية تغيير حقيقية أو أن يتنحى عن الحكم، وهذه أول مرة تستخدم فيها الدبلوماسية الأمريكية لغة كهذه. فإبقاء النظام السوري الذي كان يعد مصلحة إسرائيلية أيضا لم يعد أولوية لواشنطن ولا حتى تل أبيب. وحسب عدد كبير من الاستراتيجيين يعتبر حزب الله الخاسر الأكبر من سقوط نظام بشار الأسد لأسباب استراتيجية واضحة لها علاقة بانهيار محتمل لمحور الممانعة واختلال في موازن القوى مع إسرائيل وهي موازين وإن كانت مختلة إلا أنها كانت مكلفة جدا لإسرائيل ومصدر قلق أمني واستراتيجي دائما لصناع القرار في تل أبيب. لذلك وبعيدا عن أي مبادئ انسجم حزب الله مع مصالحه مع النظام السوري ولا بأس إن كان ذلك على حساب الشعب السوري العريض. وبمناسبة مرور 22 عاما على وفاة الإمام الخميني ألقى أمين عام حزب الله حسن نصر الله خطابا حذر فيه من تقسيم سورية في حال سقوط النظام وربط بين ذلك وبين مؤامرة تحاك لتقسيم سورية مهددا في الوقت ذاته بأن السعودية ستتعرض لتقسيم، وهو بذلك يحاول أن يلعب على عامل الخوف لعل النظام العربي المتهاوي ينحاز للنظام السوري. لم يقل حسن نصر الله كيف ستقسم السعودية إذا سقط نظام الأسد، الأمر الذي يعتبره البعض تهديدا للسعودية من قبل حزب الله. وبكلمات حسن نصر الله: "ما يحصر لسورية هو التقسيم، وإذا نجح سيصل إلى السعودية". طبعا هذا الكلام لا يستند إلى قراءة استراتيجية وإنما توظيف رغائبي حماية لمصالح الحزب الضيقة.
ولا يمكن بطبيعة الحال فهم موقف حزب الله بمعزل عن موقف طهران. وفي هذا السياق كتب مهدي خلجي من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى المقرب من تل أبيب مقالا نشره مركز الجزيرة للدراسات في 29 من أيار (مايو) يقول فيه إن إيران استفادت من الربيع العربي كثيرا حتى وصل هذا الربيع لسورية الأمر الذي فرض رواية مختلفة على صانع القرار في طهران عليه أن يتعامل مع نتائجها بشكل مختلف عما آلت إليه الثورتان في كل من تونس ومصر. كيف لا والثورة الشعبية في سورية تهدد الحليف الأهم لها في المنطقة العربية؟!
الرواية الأبرز في إيران تنطلق من مصالح إيران ومحاولة عقلنة الرؤية لما حدث ومازال يحدث في المنطقة العربية. ففي حين اعتبر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامئني أن الانتفاضة العربية الشعبية هي مبررة وشرعية لأنها تخلص العرب من عقود من الظلم الذي مورس ضدهم من حكام ارتبطوا بأجندات الدول الغربية، فهو يرى الأمر في سورية بخلاف ذلك، ويشدد على أن ما يحدث في سورية لا يمكن فصله عن مؤامرة أمريكية صهيونية للإطاحة بنظام ممانعة وقف حجز عثرة أمام الاستراتيجيتين الإسرائيلية والأمريكية ودعم المقاومة وخاصة حزب الله في لبنان وحماس في غزة. طبعا هناك قراءة إيرانية أخرى يقودها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ترى في الربيع العربي برمته مؤامرة غربية على العالم الإسلامي.
وفي كلتا الحالتين لا تتخلى إيران عن سورية أو عن أي حليف آخر في المنطقة، لذلك هناك العديد من التقارير التي تفيد بأن إيران تساعد سورية في إجراءاتها القمعية والدموية ضد المتظاهرين السوريين لأنها نفسها ـــ حسب مهدي خلجي ـــ نجحت في الأمر نفسه في التعامل مع المتظاهرين داخل إيران. بمعنى آخر تنقل إيران تجربتها وتحث سورية على عدم الرضوخ لمطالب الشعب. وهناك ناشطون سياسيون من داخل إيران وسورية يتهمون نظام طهران بإرسال مليشيا الباسيج لمساعدة سورية في القمع. ربما لهذا السبب رفع المتظاهرون السوريون شعارات معادية لإيران. فبعد فشل إيران في مساعدة شيعة البحرين والتقليل من تأثير الدور الخليجي في البحرين تخشى إيران على حليفها في دمشق وهو يمثل أقلية علوية. فالنظام في إيران معني بتحالف وثيق لحماية مصالح إيران من خلال مجابهة الاستراتيجية الأمريكية على الأرض العربية، فسورية بهذا المعنى تلعب دورا مهما في الاستراتيجية الإيرانية. لذلك تفهم طهران جيدا أن تغييرا قادما في سورية سيكون ضد مصالح إيران في المنطقة ما يدفع إيران لإعادة حساباتها الإقليمية بشكل مختلف. وبعيدا عن أمريكا ومصالحها تخشى إيران التي تخوض حربا باردة ضد السعودية بأن تحولا ما في سورية يضع السنة في الحكم يعني إضعافها مقابل ارتفاع في حضور دور السعودية التي تلعب الدور الاستراتيجي الأبرز في الخليج. فالسعودية كما هي بقية الأنظمة الخليجية تنظر بعين من القلق لمساعي إيران قلب معادلات القوى في الخليج بعد أن تحقق لها ذلك جزئيا إثر انهيار موازين القوى في الخليج في أعقاب رحيل نظام البعث بقيادة صدام حسين في بغداد. في المحصلة يمكن القول إن الأمر في سورية قد وصل نقطة اللاعودة، فلا يمكن لهذا النظام الإبقاء على الوضع القائم دون إصلاحات حقيقية إن رغب البقاء وغير ذلك فإن الخاسر الأكبر هو النظام نفسه، فالولايات المتحدة لم تحسم أمرها بشكل كامل على الرغم من فرضها عقوبات على نظام الأسد غير أن تصريحات هيلاري كلينتون تفيد بأن ثمة تغيرا في موقف أمريكا سنشهده في قادم الأيام. وفي كل الأحوال يبقى الأمر قابلا لتكهنات وتفسيرات متناقضة انتظارا للانتخابات التركية التي ستمكن أنقرة من لعب دور أكثر حسما في الملف السوري. لكن النتيجة المنطقية الوحيدة لأي تغيير في سورية بصرف النظر عن التكلفة سيكون على حساب دور إيران وحزب الله وسيخلق ديناميكية إعادة اصطفاف إقليمي مختلف يضعف من إيران التي تصاعد تأثيرها في النصف الثاني من العقد الماضي ويرفع من قوة تأثير السعودية ليس فقط في الخليج وإنما في المشرق العربي برمته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي