150عاماً .. إبداع لم ينقطع

منذ مطلع هذا العام تتواصل الاحتفالات في جامعة MIT في مدينة كمبردج في الولايات المتحدة بمناسبة مرور 150 عاما على تأسيسها. وكانت قد شهدت خلالها مولد عديد من الإنجازات والاكتشافات المهمة في التقنية بما في ذلك جهاز الرادار، والبنسلين الاصطناعي، وفيتامين (أ)، وكذلك جهاز الجايروسكوب لتوجيه سفن الفضاء، والتقنيات الحديثة للأطراف الاصطناعية، والذاكرة اللبية المغناطيسية التي مهدت لتطوير الكمبيوتر الرقمي فيما بعد. وتشمل الأبحاث والعلوم الحالية في الجامعة علوم الأعصاب، الهندسة الحيوية، تقنية المعلومات، الطاقة، والأعمال الدولية. وقد حصل 76 من منسوبي الجامعة حالياً وسابقاً على جائزة نوبل، فمنذ عام 1944م أعطيت جائزة نوبل كل سنة تقريباً لعضو أو أكثر من أعضاء جامعة MIT كان من بينهم أساتذة وباحثون وخريجون، كما أن عديدا من خريجي الجامعة يتمتعون بمراكز قيادية في قطاع الصناعة والأعمال. وقد بلغ عدد الشركات التي أسسها خريجو الجامعة في الولايات المتحدة ودول أخرى حول العالم نحو 25800 شركة توظف أكثر من ثلاثة ملايين شخص، وإجمالي إيراداتها نحو تريليوني دولار سنوياً.
ولعل أحد الملامح المتميزة للجامعة، التي تدار على أسس لا تهدف للربحية، تركيزها على نشر المعرفة. إذ شاركت في تأسيس مرافق بحث وجامعات في كثير من أنحاء العالم معظمها على غرار مختبر الأبحاث الشهير في الجامعة المسمى Media Lab، وقد أتاحت الجامعة في السنوات الأخيرة، في بادرة تعد الأولى من نوعها، جميع المواد التي تدرس في مناهجها ليطلع عليها من يشاء في موقعها الإلكتروني على شبكة المعلومات دونما مقابل مادي، الأمر الذي يعد مبادرة عملاقة في التشجيع على نشر المعرفة والتعلم لجميع بني البشر.
وبينما كُتب العديد من المؤلفات والدراسات عن إنجازات MIT وسر تميزها، هناك إجماع على أن ذلك السر يكمن في سقفها العالي في حرية البحث والتعبير عن الرأي وتشجيع الحوار في الموضوعات والآفاق الجديدة في العلوم والتقنية. إذ كثيرا ما احتضنت علماء ومفكرين هاجروا إليها من جامعات أمريكية أخرى طلباً للنبوغ والتميز في مكان لا قيود فيه على عقل الإنسان الذي هو من أكبر نعم الله على خلقه. ولعل ذلك الفضاء الواسع من الحرية لإعمال قدرات العقل هو ما أعطى MIT تلك المكانة المتقدمة مقارنة بكثير من مؤسسات التعليم العالي الأخرى، وإن كان بعضها أكثر منها مالا. ذلك التقديس لحرية الفكر والتعبير والدفاع عنها وضع الجامعة في صدامات مشهودة مع بعض المؤسسات النافذة في المجتمع الأمريكي ومن بينها المؤسسة العسكرية. إذ على الرغم من ضخامة المبالغ التي تتلقاها الجامعة سنويا من تلك المؤسسة للإنفاق على البحث العلمي، لم تتخل يوما عن علمائها المناهضين لبرامج تطوير الأسلحة والحروب التي خاضتها أمريكا في فيتنام وما بعدها، وعلى رأسهم رائد علم اللسانيات في العصر الحديث والناقد ذائع الصيت نعوم تشومسكي، بل أضفت عليهم كثيرا من التكريم ومنحتهم أعلى الرتب الأكاديمية.
ومن ضمن المفارقات في ذلك السياق ما سجله تاريخ المبنى رقم 20 في تلك الجامعة. ذلك المبنى الخشبي الذي بُني على عجالة في عام 1943م ليكون مركزا مؤقتا لعلمائها وباحثيها الذين كرسّوا كل طاقاتهم لدعم المجهود الحربي للولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، احتضن في وقت لاحق مكاتب الدراسات الإنسانية وقسم علوم اللسانيات ومن بينهم تشومسكي. كلاهما، المبنى رقم 20 وتشومسكي، أصبحا أسطورتين في تاريخ الجامعة، إذ شهد المبنى ولادة الرادار وتقنيات أخرى كانت مؤثرة في ترجيح كفة الحلفاء في الحرب، بينما رفد تشومسكي من المكان نفسه كنوز الحضارة نظريته غير المسبوقة في اللسانيات.
في عام 1998م أزيل المبنى رقم 20، أي بعد أكثر من نصف قرن من تاريخ إنشائه، ليفسح لمبنى آخر بات هو أيضا معلما من معالم MIT، بينما لا يزال تشومسكي يواصل مشواره في نبذ العنف ومناهضة الحروب والدفاع عن حقوق الإنسان.
لم تدع الجامعة أثر ذلك المبنى يضيع، بل سجلت تاريخه وتاريخ الأحداث التي شهدها بدقة. كما حافظت على جزء كبير من هيكله الخشبي في شكل قطع تهديها لبعض خريجيها. وعلى الرغم من صغر حجم تلك القطع، إلا أنني كلما أبصرت تلك التي أحتفظ بها في مكتبي، تذكرت مقاعد الدراسة هناك، وأنشدت مع ابن الرومي ''ذكرّتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذاكا''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي