العنف الطائفي.. ثورة مصر في خطر!

كانت مصر الثورة على موعد مع الفتنة البغيضة يوم السبت السابع من أيار (مايو) 2011. إنه أمر متكرر بسبب تحول أحد المصريين عن المسيحية أو الإسلام أو بسبب بناء كنائس جديدة. على أن مسرح الأحداث اتخذ هذه المرة في حي إمبابة الشعبي بعداّ خطيراً من خلال الاشتباكات الدموية بين المسلمين والمسيحيين والتي أودت بحياة 12 شخصاً وإصابة نحو 200 شخص آخرين. لقد دفع هذا الأمر الجلل بعض المسؤولين في الدولة المصرية إلى التحذير علانية من إمكانية انزلاق مصر في أتون حرب أهلية تدمر نسيجها الاجتماعي الذي ظل متماسكاً على مر آلاف السنين.

أسطورة الأيدي الخفية
لقد اعتاد الخطاب الإعلامي لمرحلة ما بعد مبارك على وصف التحديات الهائلة التي تواجهها المرحلة الانتقالية بما في ذلك التهديدات الأمنية والطائفية بأنها نابعة من القوى المضادة للثورة والتي تعمل في الخفاء. وأصبح مصطلح الأيدي الخفية يذكرنا بخطاب جهاز أمن الدولة المصري (المنحل) الذي اعتاد على توجيه الاتهامات لأصحاب الأجندات الخارجية والقوى المندسة! وأحسب أن قراءة ومتابعة أحداث العنف والتوترات الطائفية في مصر بعد الثورة تظهر بجلاء من هو المسؤول؟ فثمة إمكانية لا تحتاج إلى كثير عناء لتحديد أسباب هذا ''الانفلات'' الأمني والطائفي. بيد أن الأمر في حاجة إلى إرادة سياسية حازمة تفرض هيبة الدولة واحترام القانون على الجميع.
واللافت للانتباه أن أداء كل من المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير أمور البلاد، وحكومة تصريف الأعمال برئاسة الدكتور عصام شرف يتصف بالارتباك وعدم الحسم في كثير من القضايا التي تمس أمن الدولة والمواطنين بشكل مباشر. ولعل ذلك يمثل تهديداً خطيراً قد يصيب الحركة الثورية في مصر بانتكاسة تبعدها عن تحقيق آمالها المرجوة في بناء الدولة المدنية الديمقراطية. ويحاول البعض من أصحاب التفكير التآمري أن يفسر هذا التردد والارتباك من جانب الجيش المصري على أنه أمر متعمد بهدف صرف أنظار المواطنين عن استكمال أهداف الثورة في استئصال كل ما له صلة بالنظام السابق وإحداث تحول ديمقراطي حقيقي. فعندما يغيب الأمن وتتعرض حياة المواطنين للخطر قد يصبح الحديث عن تسليم السلطة للجيش، أو على الأقل لرئيس عسكري مطلباً عاماً. وربما بدأت هناك دعوات من قوى سياسية بعينها ترى بأنه لا مانع من عسكرة السياسة في مصر مرة أخرى.

دلالات العنف الطائفي
لم يكن إحراق كنيسة مارمينا وكنيسة العذراء في حي إمبابة تعبيراً عن حالة منفردة لها خصوصيتها وإنما هي سلسلة من الأحداث التي تعبر عن تزايد حالة الاحتقان الطائفي في مصر والتي ترسخت جذورها طوال العقود الثلاثة الماضية. ففي أول حالة من العنف الطائفي بعد الثورة قامت مجموعات من المسلمين الغاضبين بمهاجمة كنيسة قرية ''صول'' التي تبعد نحو 30 ميلاً من القاهرة وإحراقها في آذار (مارس) الماضي، وهو ما أدى إلى حدوث مصادمات طائفية بعد ذلك في حي المقطم بالقاهرة. وبعيداً عن أزمة إحراق الكنائس التي عصفت بهيبة الدولة المصرية تعرضت حكومة الثورة لاختبار آخر في محافظة قنا الجنوبية حينما تم تعيين محافظ قبطي لها. فقد تظاهر أهالي قنا لمدة أسبوعين مطالبين بإقالة هذا المحافظ، وهو الأمر الذي أجبر الحكومة على تعليق تعيين المحافظ الجديد لمدة ثلاثة أشهر استجابة لهذه المطالب الشعبية، وهو ما يتم النظر إليه على أنه دليل فشل حكومي واضح في إدارة الأزمات التي تواجهها.
ونستطيع أن نشير إلى دلالات أربع أساسية نابعة من هذه الصدامات والأحداث ذات البعد الطائفي في مصر بعد الثورة وذلك على النحو التالي:
أولاً: العجز الحكومي الواضح في تطبيق النظام والقانون. فعلى الرغم من التباعد النسبي بين حالة إحراق كنيسة صول في آذار (مارس) 2011 وإحراق كنيستي إمبابة في أيار (مايو) 2011 إلا أن السلطات المصرية وقفت موقف العاجز تماماً في منع حدوث هذه المصادمات أو على الأقل التدخل في الوقت المناسب. وكثيراً ما يتساءل المواطنون عن قوانين البلطجة التي أقرتها حكومة عصام شرف والتي تمكنها من إحالة المتهمين بترويع المواطنين إلى محاكم عسكرية.
وإذا كانت قضية سيدة مسيحية تم الزعم بأنها أشهرت إسلامها في عهد النظام السابق الذي قام بتسليمها للكنيسة قد أثارت حفيظة التيارات الإسلامية السلفية قد ترك أمرها للقضاء فإن المثير للانتباه في هذه الحالة أن القضاء حينما استدعى هذه السيدة للشهادة امتنعت عن الحضور ولم تحرك الدولة ساكناً وكأن هناك من هو فوق القانون.
ثانياً: بروز قوة التيار السلفي المتشدد والذي علا صوته بعد الثورة مستفيداً من مناخ الحريات العامة من أجل تحقيق أهدافه العليا. ولا شك أن أشد ما يقلق دعاة الدولة المدنية في مصر هو إمكانية حدوث تحالف بين السلفيين والإخوان المسلمين وغيرهم من حركات الإسلام السياسي في مصر. وربما يؤكد هذه المخاوف قيام هذه القوى السلفية والإخوانية بعقد مؤتمر حاشد في منطقة الهرم بالجيزة ضم نحو 50 ألف شخص وذلك بعيد أحداث إمبابة الطائفية.
وعلى الرغم من تبرؤ هذه القوى الإسلامية من أحداث الفتنة الطائفية في إمبابة إلا أنها رددت خطاباً إسلامياً تقليدياً تطالب فيه بإنشاء دولة الخلافة الإسلامية، وهو ما يخالف طبيعة العقد الاجتماعي للثورة المصرية الذي يؤكد على مدنية وديمقراطية الدولة الجديدة في مصر.
ثالثاُ: التأثير في روح الوطنية المصرية بشكل سلبي من خلال إثارة النزعات الطائفية والمذهبية. فعلى الرغم من مثالية الحالة المصرية العامة التي أظهرتها روح ثورة يناير العظيمة فإن ثمة مخاوف من ظهور حالة من الاستقطاب الحاد التي تنذر بتقسيم المجتمع المصري عبر خطوط رأسية. فهناك خطاب إسلامي في مواجهة خطاب قبطي. كما يوجد خطاب سلفي في مواجهة خطاب إخواني، وثمة خطاب علماني في مواجهة خطاب ديني وهلم جراً.
إن الوطنية المصرية الجامعة التي رفعت دوماً شعار ''الدين لله والوطن للجميع'' في حاجة إلى برنامج إعلامي وتثقيفي للثورة وذلك من أجل التأكيد على وترسيخ قيم المواطنة والتسامح التي ازدهرت في أرض الكنانة عبر العصور.
رابعاً: عسكرة المجتمع المصري. أظهرت أحداث العنف الطائفي وأعمال البلطجة في الشارع المصري بعد الثورة وجود السلاح وانتشاره في أيدي المواطنين. فكثيراً ما يروي شهود العيان وجود قناصة يعتلون أسطح المنازل والمحال التجارية لإطلاق النار على المتظاهرين والمحتجين في المصادمات ذات البعد الطائفي. وربما يرجع انتشار الأسلحة وتداولها في المحافظات المصرية إلى أمرين اثنين أولها سرقة أسلحة وذخائر الشرطة أثناء مظاهرات ثورة يناير وهروب عدد كبير من أصحاب الأحكام الجنائية. أما الأمر الثاني فإنه يرتبط بالصراع الدموي العنيف في ليبيا ونجاح بعض المهربين في تهريب كميات من الأسلحة إلى مصر. ولعل ذلك المسلك يعد خطيراً في دلالاته على المدى البعيد إن لم تتدارك القوى الأمنية هذه الأخطاء وتعيد الأمور إلى نصابها.

مراجعات واجبة
إن على السلطات المصرية إعادة النظر والتدبر في خبرة الفترة الماضية من أجل استلهام الدروس والعبر وامتلاك القدرة على التخطيط للمستقبل. ولعل تركيز الحكومة الانتقالية على بعض الملفات مثل الاقتصاد والسياسة الخارجية مع إهمال ملف الأمن مثل أحد الأخطاء الكبرى. فقد شاع انطباع عام لدى المواطنين بمختلف فئاتهم أن الحكومة عاجزة وأن الجيش متردد ومرتبك، وعليه فإن المطلوب هو أن تكون هناك أولويات متوازية وليست متتالية. فمن المفترض إعطاء الأمن وهيبة الدولة أولوية قصوى بالتوازي مع غيره من الأولويات.
وإذا كان المجلس العسكري الأعلى قد أعلن غير مرة أنه يضمن مدنية الدولة المصرية من خلال تطبيق قواعد الممارسة الديمقراطية الكاملة فإن عليه أن يفرض ذلك ويستخدم قبضته الحديدية لمواجهة كل من تسول له نفسه اختطاف ثورة المصريين وحرمانهم من ثمرة نضالهم وكفاحهم في مواجهة دولة الطغيان. هل يعقل أن يرتفع صوت دعاة الرجعية والتطرف بعدما تعودوا سنوات طويلة على حياة الخنوع والاستكانة زمن العهد البائد؟.
لقد أثبتت أحداث العنف والاحتقان الطائفي بعد الثورة أن العقد الاجتماعي الذي ينبغي الاتفاق عليه في مصر الجديدة ينص على مدنية وديمقراطية الدولة بما يعنيه ذلك من احترام قيم المواطنة والمساواة والعدالة للجميع بغض النظر عن الانتماء الديني والإقليمي أو النوع أو المكانة الاجتماعية، وعليه يصبح على الجميع ممن يريدون المشاركة في العمل العام الالتزام بقواعد هذا العقد. وفي ظني أن قدسية هذا العقد الملزم تستند إلى إرادة المصريين الجامعة التي تم التعبير عنها بجلاء في ثورة يناير المجيدة. فهل يعي المصريون الدرس ويحمون بلادهم شر فتنة قد تهوي بهم إلى ما لا يحمد عقباه؟! حمى الله أرض الكنانة وشعبها من كل سوء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي