ضوابط في تسبيب الأحكام القضائية (2 من 2)
ذكرنا في المقال السابق بعض الضوابط التي يجدر الاعتناء بها في تسبيب الأحكام القضائية، ومثلها القرارات التي تأخذ طابع الأحكام القضائية وتتمتع بالقوة الثبوتية مثل قرارات مكتب الفصل في الأوراق التجارية وغيره من اللجان شبه القضائية.
ونكمل الضوابط بما يلي:
5- أن يكون التسبيب بعد التكييف الواضح:
والمراد بهذا الضابط أن يقوم القاضي بتوصيف القضية وتكييفها بصورة صحيحة مثل قضية أخذ مال من الغير هل هو سرقة أم اختلاس، ومثل الطلاق بعوض وتوصيفه بالخلع، ومثل التعويض بناءً على مسؤولية تقصيرية أو عقدية ثم بعد التوصيف والتكييف يكون التسبيب كمرحلة لاحقة. وقد يقول قائل إن هذا أمر منطقي فكيف يكون الحكم إذا انعدم التكييف والجواب عن ذلك: إن بعض القضايا دقيقة في توصيفها مثل: الاختلاف في توصيف جريمة معنية هل هو استغلال نفوذ أم جريمة رشوة بناءً على الرجاء والوساطة؟ وقد يقتنع القاضي بوجود إدانة فيحكم بالإدانة ويشرع في رسم ملامح التسبيب مع أن تكييف القضية لم يتحدد بشكل نهائي. ويحصل هذا كثيراً خاصة للقضاة المبتدئين.
6- أن يكون التسبيب متوازناً:
وتوازن الأسباب هو تعادلها في تغطية جوانب القضية، فلا يركَّز على جانب من الأسباب ويهمل جانباً آخر جديراً بالاهتمام والإيراد، وذلك كأن يذكر القاضي أسباب التجريم في العقوبة التعزيرية، ويغفل موجبات التخفيف أو التشديد فيها إن وجدت.
يدلّ على ذلك: قصة الظعينة التي أرسلها حاطب ابن أبي بلتعة ــ رضي الله عنه ــ وذلك أنه لما كتب إلى أهل مكة عام الفتح يخبرهم بمسير النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ، وظهر أمر الكتاب سأله النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ عن ذلك، فقد روى علي ابن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ قال: ''بعثني رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ـــ وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام ـــ وكلّنا فارس ـــ قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة.. فإن بها امرأة من المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، فقلنا: الكتاب، فقالت ما معنا كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً، فقلنا ما كذب رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزته ـــ وهي محتجزة بكساء ـــ فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني اضرب عنقه، فقال النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: ما حملك على ما صنعت؟ قال: حاطب والله ما بي ألا أكون مؤمنا بالله ورسوله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع الله به عن أهلي ومالي، فقال النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً، فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني لأضرب عنقه، فقال: أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو: فقد غفرت لكم فدمعت عينا عمر، وقال الله ورسوله أعلم''.
فالنبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ هنا وازن بين فعلة حاطب ـــ رضي الله عنه ـــ، وما بسطه من عذره، وما له من سابقة في الإسلام من شهود بدر، وهذا في غاية الموازنة.
7- إبراز الصياغة القضائية:
والمراد بالصياغة القضائية هنا: أداؤها مكتوبة بوضوح، والتزام باللغة العربيَّة، واستخدام المصطلحات الشرعية والقانونية وفق الأصول القضائية.
فتحول الأسباب من أفكار منثورة في الذهن أو مسودات في الورق إلى (صك الحكم) عملية دقيقة. لأن المعاني المرسومة في الذهن ذات الصبغة القضائية تعتمد على مقدمات ونتائج وتفريغها بترتيب تام عمل شاق ليس بالسهل كما يتوقعها البعض.
ويكفي في صك الحكم أن تكون الأسباب فيه مكتوبة بصياغة واضحة الأسلوب والعبارات، متسلسلة، بعيدة عن الإيهام والاحتمال لأكثر من معنى، وأيضاً عن غريب الكلام والتعقيد في الألفاظ والأساليب، وتجدر الإشارة إلى أن القضاء الفرنسي ينتهج أسلوب الإيجاز في التسبيب قدر الإمكان، وهو رأي فقهي أيضاً عند الفقهاء أشار إليه العلامة ابن خنين في كتابه التسبيب ورجحه، استناداً على أن الأصل في لغة العرب الإيجاز فليس تسبيب الأحكام مجالاً للتزيد من الأساليب الأدبية والبيانية، والاتجاه الآخر في القضاء الإنجليزي والأمريكي هو الاستطراد في التسبيب من باب تأكيد الحقيقة، وبين الاتجاهين تأتي مدرسة القضاء المصري الذي يرى التوسط بين الإيجاز والإسهاب وخير الأمور الوسط وهو المرجح عندي كرؤية عملية بين المترافعين وبين الجهات العليا القضائية. ومن الصياغة القضائية أيضاً الاعتناء بالاصطلاحات الشرعية فقهاً وقضاءً لأنها العنوان المعبر عن المعاني الشرعية والقانونية، وهي القاسم المشترك فهماً وأداءً لجميع من يطّلع على الحكم سواءً في المحاكم الاستئنافية أو الجهات التنفيذية، مثل إبراز مصطلح المباشر والمتسبب عند تضمين المباشر دون توصيف فعله بأنه مباشرة وهو مقدم على التسبب. ولعل ما سبق يكون كافياً للاهتمام بهذا الموضوع الذي أصبح مثاراً في أروقة الإعلام، ويتضح ذلك بمطالبة الكثير بتأهيل القضاة حتى يكونوا أكثر مواكبةً للتطوير القضائي الذي نشهده اليوم في الأصعدة كافة. وفي الأسبوع الماضي دشن رئيس ديوان المظالم البوابة الإلكترونية ـ المرحلة الثانية ـ والتي تسمح عن قريب بالترافع الإلكتروني. وصاحب هذه الفاعلية عقد ورش عمل متخصصة شاركت فيها مع كثير من القضاة، وكان فيها لقاءات ودية مع تلاقح الأفكار بين القضاة والشيخ الحقيل رئيس الديوان في طابع ليس فيه رئيس ولا مرؤوس، فالكل يشارك والكل يتحدث.
إن تطوير القضاء قادم ـــ بإذن الله ـــ ولكن يجب على كل قاض أن يبحث عن موطئ قدم في هذه العملية التطويرية حتى يكون متعايشاً مع زمانه.
أسأل الله للجميع السعادة والهناء، وأن يصلح الأحوال المعيشية والأجواء المناخية.