التنافس الدولي وأثره في الثورة الليبية

على الرغم من تعدد الدعوات والمبادرات الدولية من أجل إيجاد حل سلمي للصراع المسلح المحتدم في ليبيا، فإن الأوضاع على مسرح العمليات لا تزال تراوح مكانها وتهدد بكارثة إنسانية واسعة النطاق. فقد أطلقت تركيا ما أسمته خارطة طريق تهدف إلى وقف فوري لإطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية للمدن الليبية المحاصرة. وفي الوقت نفسه، توجه وفد إفريقي رفيع المستوى برئاسة جاكوب زوما رئيس جنوب إفريقيا إلى ليبيا في العاشر من نيسان (أبريل) الماضي، وطرح مبادرة إفريقية لا تكاد تختلف في جوهرها عما طرحه الأتراك.
بيد أن الإشكالية الكبرى التي تواجه جميع هذه المبادرات السلمية أنها لا تفي بالحد الأدنى من مطالب الثوار الليبيين الذين لا يرون إمكانية وجود القذافي أو عائلته عند تقرير مستقبل ليبيا بعد الثورة. يعني ذلك ببساطة شديدة ضرورة رحيل القذافي وعائلته. وقد أكد هذا المعنى قادة كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في رسالة مشتركة لهم نشرت في منتصف نيسان (أبريل) 2011؛ إذ أصر القادة الثلاثة على ضرورة رحيل القذافي عن المشهد السياسي الليبي.

القوى الصاعدة والأزمة الليبية
يبدو أن حالة الجمود العسكري والسياسي التي تشهدها الأزمة الليبية إنما تعكس في جوهرها طبيعة التناقض وتعقد المصالح وتشابكها في النظام الدولي الراهن بعد نهاية الحرب الباردة. ففي الاجتماع السنوي الثالث لقمة مجموعة البركس BRICS التي تضم كلا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وعقدت في منتجع سانيا جنوب الصين في 14 نيسان (أبريل) 2011 تم التوكيد على ضرورة التسوية السلمية للأزمة الليبية، ورفض التدخل العسكري لحلف شمال الأطلنطي في ليبيا.
وربما تُعزى أهمية موقف هذه المجموعة من كونها تعبر عن القوى الدولية الصاعدة في النظام الدولي. إذ إنها تمثل مجتمعة نحو (40 في المائة) من جملة سكان العالم، كما أنها تسهم بنحو خمس إجمالي الناتج المحلي على المستوى العالمي وفقاً لتقديرات 2010. ومن المتوقع أن تتجاوز القدرة الاقتصادية لهذه المجموعة قدرات مجموعة الدول السبعة الصناعية الكبرى بحلول عام 2035، وذلك وفقاً للتقديرات الرسمية لمجموعة "البركس".
واللافت للنظر أن البرازيل وروسيا والصين والهند قد امتنعت عن التصويت على قرار فرض منطقة حظر الطيران فوق الأراضي الليبية في حين صوتت جنوب إفريقيا لصالحه. وعليه، فإن محاولة هذه القوى الجديدة بلورة موقف مخالف للإرادة الأمريكية والغربية، فيما يتعلق بالحالة الليبية إنما يعكس معارضة مبدأ استخدام القوة في فضِّ المنازعات والحروب الداخلية والدولية. وإذا علمنا أن التحالف الغربي الذي يقود التدخل الدولي في ليبيا إنما يعبر عن مصالح وأهداف ليست بعيدة عن الوصول إلى مصادر النفط الليبي، فإنه يمكن فهم واستيعاب ما يمكن أن نسميه لعبة الأمم في ليبيا.

الموقف الغربي وتضارب المصالح
يلاحظ أن فرنسا بقيادة ساركوزي قد سارعت منذ البداية إلى الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي في بنغازي، ودفعت باتجاه التدخل العسكري في الأزمة الليبية. وفي المقابل، فإن الولايات المتحدة التي لا تزال تعاني تبعات تدخلها في كل من أفغانستان والعراق قد اتخذت موقفاً متردداً في البداية. وقد حاولت بريطانيا اللحاق بركب التدافع الدولي على ليبيا ومحاولة التقريب بين الموقفين الفرنسي والأمريكي.
أضف إلى ذلك فإن بعض الدول الأوروبية أعضاء حلف شمال الأطلنطي مثل إيطاليا وتركيا وألمانيا واليونان قد اتسم موقفها بالتردد والغموض، وهو ما يعكس تضارباً في المصالح وتعقيداً في الحسابات. وعلى سبيل المثال فإن إيطاليا، الدولة المستعمرة السابقة لليبيا، قدمت تسهيلات للحملة العسكرية الغربية على ليبيا. وفي الوقت نفسه، كما تفيد بعض التقارير، قامت بمساعدة وتقديم العون لعائلة القذافي. وربما تعكس العلاقات والمصالح الاقتصادية والتجارية بين كل من إيطاليا وليبيا القذافي حقيقة الموقف الإيطالي من الصراع في ليبيا. ولا أدل على ذلك من أن رئيس شركة "إيني" النفطية باولو سكاروني قد سافر إلى بنغازي للتفاوض مع الثوار هناك حول التعاون في قطاع النفط الليبي.
وبالنسبة للموقف الأمريكي فإنه يقع أسير اتجاهات ثلاثة تسود المؤسسات والمصالح الأمريكية. أول هذه المواقف تعبر عنه الشركات النفطية الأمريكية التي ترغب في الوصول إلى النفط الليبي حتى لو كان الثمن تقسيم ليبيا. وربما يمكن فهم ذلك من الإشارات المبكرة التي أعلنها رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جيمس كلابر التي أكد من خلالها، تفوق قوات العقيد القذافي وإمكانية استمراره على رأس السلطة في الوقت نفسه الذي يمكن فيه تقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم شبه مستقلة. أما الموقف الأمريكي الثاني فتعبر عنه وزارة الدفاع الأمريكية التي لا تريد أن تخوض حرباً لمصلحة الشركات النفطية. وقد عبر عن هذا الموقف رئيس هيئة الأركان المشتركة الأدميرال مولن ووزير الدفاع روبرت جيتس في أثناء شهادتيهما أمام الكونجرس الأمريكي. ويرتبط الموقف الأمريكي الثالث من الحرب في ليبيا بصقور الإدارة الأمريكية أمثال سوزان رايس وهيلاري كلينتون. إذ يؤكد ذلك الموقف الذي يميل إليه الرئيس أوباما إلى ضرورة رحيل القذافي، على الرغم من أن التفويض الدولي لا يشمل "تغيير النظام" في ليبيا.

الموقف الإفريقي
يبدو أن المواقف التي اتخذها العقيد القذافي تجاه إفريقيا منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي ورفعه شعار الولايات المتحدة الإفريقية قد أدت إلى كسب المزيد من الأنصار والمؤيدين له بين الأفارقة. على أنه في الوقت نفسه لا يمكن التغاضي عن قيام القذافي باستخدام موارد النفط الليبي لكسب عقول وقلوب الأفارقة. فالقذافي في نظر كثير من الأفارقة هو رجل لديه مال وفير وينفق بلا حساب. وعلى سبيل المثال فإن المؤسسات المالية التابعة للاتحاد الإفريقي ارتبطت بشكل مباشر بالدعم الليبي. إذ احتضنت مدينة سرت بنك الاستثمار الإفريقي، كما وعد القذافي باستثمار نحو 14 مليار دولار في إفريقيا إذا تمت الموافقة على إنشاء الولايات المتحدة الإفريقية.
وإذا كانت المواقف الغربية تعاني الانقسام والتردد إزاء الحل الأمثل للأزمة الليبية، فإن المواقف الإفريقية تبدو هي الأخرى تحكمها المصالح والاعتبارات السياسية والأيديولوجية لكل دولة على حدة، وعلى سبيل المثال فإن جنوب إفريقيا التي لا تزال تحتفظ في ذاكرتها الجمعية بزيارة نيلسون مانديلا لليبيا في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1997 بهدف رفع الحظر الدولي عن نظام القذافي آنذاك تحاول جاهدة إنقاذ القذافي ونظامه المترنح، ولكن دون جدوى.
إن ثمة تناقضاً واضحاً بين الرسمي والشعبي في المواقف الإفريقية إزاء القذافي. ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى الموقف الشجاع الذي عبر عنه القس ديزموند توتو الحائز جائزة نوبل للسلام عام 1984. فقد نادى بضرورة رحيل القذافي وإيجاد نهاية سريعة للصراع في ليبيا. وعلى حد تعبيره فإن الحالة المثالية هي التي يتمكن من خلالها العالم من إلقاء القبض على القذافي وتقديمه للمحاكمة.
وعلى أي حال فإنه يمكن فهم الموقف الإفريقي من الثورة الليبية على ضوء اعتبارات ثلاثة: أولها أن دول الجوار الإفريقية مثل تشاد والنيجر غير مستعدة للتعامل مع موجات النازحين والعائدين الذين فروا من جحيم القذافي داخل ليبيا. ولعل أبرز التداعيات الإقليمية للثورة الليبية تتمثل في مشكلة المرتزقة، إذ تشير بعض التقارير إلى أن القذافي يعتمد على عدة آلاف من جنود المرتزقة يحاربون في صفوف كتائبه الأمنية. كما أن هذه الكتائب تشمل نحو عشرة آلاف مقاتل من قبائل الطوارق الرحل التي تنتشر عبر صحاري ليبيا ومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو. ويمكن للمرء أن يتخيل في حالة سقوط نظام القذافي عودة هؤلاء المقاتلين سواء من المرتزقة أو الطوارق إلى أوطانهم. فما هي انعكاسات وجود هذا العدد الكبير من المقاتلين المدربين في مجتمعات منقسمة وتفتقر إلى الاستقرار السياسي، بل تعاني أزمة الشرعية السياسية؟! إن الإجابة قد تبدو يسيرة ولا تحتاج إلى عناء كبير. إذ يمكن لهؤلاء العائدين من ليبيا تغيير المشهد السياسي تماماً في بلدانهم.
أما الاعتبار الثاني الأكثر خطورة من مشكلة المرتزقة في ليبيا التي لا توجد تقديرات مؤكدة حول حقيقة أعدادهم، فإنه سيتمثل في العمال الأفارقة الذين ذهبوا إلى ليبيا بحثاً عن عمل. ويشكل هؤلاء نحو (20 في المائة) من جملة سكان ليبيا. صحيح أن بعض هؤلاء العمال تمكنوا من الفرار والعودة إلى ديارهم، إلا أن الكثيرين منهم لا يزالون في الداخل الليبي، وربما تقطعت بهم السبل. ولا يخفى أن عودة هؤلاء العمال إلى أوطانهم ستزيد من حدة مشكلة البطالة والمعاناة الاقتصادية في هذه الدول الإفريقية.
ويشير الاعتبار الثالث إلى التداعيات السلبية للصراع في ليبيا على الاقتصادات الإفريقية. فمن المعروف أن عائلة القذافي والحكومة الليبية يسيطرون على مليارات الدولارات في شكل استثمارات في العديد من الدول الإفريقية. وتراوح تلك الاستثمارات الليبية ما بين فنادق ومحطات للبترول ومزارع للدواجن، كما هو الحال في توجو أو شركات للاتصالات مثل النيجر أو العديد من شركات التعدين. ولعل ذلك يبرر مخاوف الدول الإفريقية من احتمال سقوط القذافي، وهو ما يعني توقف تمويل هذه الاستثمارات. لم يكن بمستغرب أن تدفع الدول الإفريقية بمبادرة سلمية لوقف القتال ودعم الحوار بين النظام ومعارضيه مع التوكيد على أهمية بقاء القذافي على رأس السلطة في ليبيا.
ولعل السؤال المطروح في ظل هذه المواقف الدولية المتباينة والمتنافسة من الصراع الليبي يتعلق بالمآلات وآفاق المستقبل، فهل تتجه الجهود الراهنة في مسرح العمليات العسكرية إلى تكريس التقسيم الجغرافي وتعريض وحدة ليبيا للخطر؟ أم يتم اللجوء إلى تبني خيارات عسكرية أخرى تتجاوز حدود التفويض الدولي الذي يستند إلى بنود القرار 1973 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بحق ليبيا، وهو ما يعني تسليح الثوار وربما نشر قوات برية لحفظ السلام؟ ولا شك أن الخيار الأفضل دائماً هو أن يترك للشعب الليبي الحرية في تقرير مصيره بعيداً عن القذافي وعائلته!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي