عودة الروح للسياسة الخارجية المصرية
من الواضح أن تداعيات التطورات الكبرى التي أحدثتها الثورة المصرية منذ مطلع العام الحالي، سواء بالنسبة للداخل المصري نفسه أو لمنطقة الشرق الأوسط أو العالم بأسره، لن تكون واضحة المعالم على المدى القصير. ومع ذلك تشير بعض الدلائل المبدئية، إلى أن مصر ما بعد مبارك ستنتهج سياسة خارجية أكثر توازنا وإيجابية عما كان عليه الحال منذ عقود ثلاثة خلت.
على أن الدور المصري الخارجي سوف يرتبط ارتباطا وثيقا بمآلات الثورات العربية في شمال إفريقيا وآسيا وبطبيعة التحولات الجيواستراتيجية التي يشهدها النظام الإقليمي العربي. فقد أدرك العرب الذين سئموا من هشاشة نظامهم الإقليمي الذي صاغته وحرّكته إرادات خارجية، على رأسها أوروبا والولايات المتحدة أن بإمكانهم قيادة وتوجيه عمليات التحول الديموقراطي في مجتمعاتهم.
المحددات الموضوعية والإرادة السياسية
لا شك أن خصائص الموقع الجيوسياسي لمصر تؤثر لا محالة على طبيعة توجهات سياستها الخارجية؛ إذ تحتل مصر موقعا استراتيجيا مهما بين قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، كما أنها تمثل حلقة اتصال بين اثنين من أهم الممرات المائية في العالم، وهما البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي؛ لذا كان لزاما على من يحكم مصر أن يسيطر بفعالية على محيطه الخارجي وإلا وقعت بلاده ضحية للطامحين من القوى الخارجية. وقد اقتضت الاعتبارات الأمنية أن يصل النفوذ المصري إلى مناطق أعالي النيل؛ حتى يتم تأمين وصول مياه النيل إلى مصر، ولذلك ارتبطت مصر بعلاقات تاريخية مع السودان وباقي دول حوض النيل. وعلى صعيد آخر، فقد نظرت مصر إلى بوابتها الشمالية الشرقية مع قارة آسيا باعتبارها مصدر تهديد محتمل لأمنها القومي. يعني ذلك أن وجود دولة إسرائيل في هذه المنطقة وحصولها على دعم القوى الكبرى في النظام الدولي يمثل واحدا من مصادر التهديد الكبرى للأمن القومي المصري.
ومن الملاحظ أن توافق الإرادة السياسية مع المحددات الموضوعية للسياسة الخارجية المصرية قد أفضى إلى تأسيس دور إقليمي فاعل لمصر في فترات تاريخية مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن مصر الناصرية كانت على يقين من أهميتها باعتبارها همزة وصل بين دوائر أو عوالم ثلاثة هي الإسلام والعروبة والإفريقانية. واللافت للانتباه أن مصر في عهد مبارك تخلت عن هذا الدور الإقليمي الفاعل، رغم أنها كانت على وعي بأهمية مكانتها الاستراتيجية.
ولعل ثاني أبرز المحددات الموضوعية التي تصوغ سياسة مصر الخارجية يتمثل في الهوية الحضارية المصرية والتي تعد العروبة والإسلام جوهرها الأصيل. فمع الاعتراف بأن لمصر هوية متميزة وتاريخا قديما يعود إلى ما قبل الإسلام، فإن مصر أضحت قلب العروبة النابض وتمثل أكبر بلد ناطق بالعربية، كما أنها مثلت أحد مراكز الإشعاع الحضاري الإسلامي عبر التاريخ. وبالنظر إلى العقود الثلاثة الماضية من حكم مبارك نجد أن مصر المحروسة انكفأت على الذات لترفع قيادتها - زيفا وخداعا - شعار "مصر أولا" فتركت الساحة الإقليمية والدولية لقوى وأطراف عربية وغير عربية أخرى راغبة في سد هذا الفراغ الاستراتيجي الذي حدث بسبب الغياب المصري. وأحسب أنني في أحد المقالات التي تناولت فشل مصر مبارك في تأمين مصالحها المائية في مناطق أعالي النيل قد وصفت مصر بأنها بمثابة الفيل النائم في القارة الإفريقية.
وإذا كان المصريون يشتهرون بروح الدعابة والسخرية من حكامهم فقد كان توصيفهم للرئيس مبارك بالغ الدقة، حيث نظر إليه بشكل عام على أنه لا يميل إلى التغيير أبدا ويفضل الوضع القائم. لقد قال أحدهم "إن أفضل يوم يمر على مبارك هو ذلك اليوم الذي لا يحدث فيه أي شيء على الإطلاق". وهكذا، فإنه اكتفى في علاقاته الخارجية بتأمين علاقات قوية مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. ولم يطمح مبارك قط في أن يمارس دورا إقليميا فاعلا في مناطق الجوار الرئيسة فترك المجال لقوى أخرى مثل إيران وتركيا وإثيوبيا لممارسة التأثير والنفوذ في المحيط الاستراتيجي للدولة المصرية.
عودة التوازن للدور المصري
إن نقطة التحول الكبرى في السياسة الخارجية المصرية في مرحلة ما بعد مبارك تتمثل في تعيين السفير نبيل العربي على رأس وزارة الخارجية المصرية. ولعل أول مؤشرات ذلك التحول ارتبطت بتغير الموقف المصري من إيران؛ إذ التقى الدكتور نبيل العربي برئيس قسم رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة، وأكد أن مصر الثورة تريد إقامة علاقات طبيعية مع دول العالم كافة، كما أنه قبل دعوة وجهت إليه لزيارة إيران.
ويمكن الإشارة إلى عدد من الوقائع والأحداث التي تشير إلى وجود تحول واضح في السلوك المصري الخارجي، ومن ذلك:
- محاولة تطبيع العلاقات المصرية - السورية، حيث قام مدير المخابرات العامة المصرية اللواء مراد موافي بزيارة دمشق؛ لمناقشة القضايا الأمنية والاستراتيجية ذات الاهتمام المشترك بين البلدين. وقد تم ترجمة ذلك التقارب الجديد في سرعة استجابة السلطات السورية للمطالب المصرية بالإفراج عن عدد من المواطنين المصريين الذين تم اعتقالهم في خضم أعمال الاحتجاج الشعبي الذي تشهدها بعض المدن السورية. ولا شك أن جهود الدبلوماسية المصرية في الإفراج عن هؤلاء المواطنين المصريين - وبسرعة قياسية - قد أعادت ثقة المواطن المصري في مؤسسات صنع القرار المصري الخارجي، وهو ما كان مفتقدا في ظل حكم الرئيس مبارك.
- تخفيف الضغوط المصرية المفروضة على حركة حماس الفلسطينية والسعي لتحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية. وقد اتضح هذا الموقف المصري الجديد من السماح لبعض قادة حركة حماس من مغادرة القطاع عبر معبر رفح للتوجه إلى دمشق. كما تم السماح لأول مرة للمصريين بالتظاهر أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة. وعليه فمن المحتمل أن يحدث تغير واضح في المواقف المصرية إزاء التعامل مع حركة حماس أو معبر رفح، يعني ذلك إمكانية تعرض العلاقات المصرية - الإسرائيلية لحالة من الجمود أو البرود الذي يخالف ما كانت عليه في عهد مبارك.
- تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية. وقد كان أول ملامح ذلك التوجه متمثلا في السماح لبارجتين إيرانيتين بعبور قناة السويس في طريقهما إلى ميناء اللاذقية السوري؛ وذلك على الرغم من الضغوط الإسرائيلية والأمريكية. كما أن إعلان مصر نيتها إعادة العلاقات الطبيعية مع طهران يمثل قطيعة مع توجهات السياسة المصرية في عهد مبارك. وربما يتسق مع ذلك تخفيف حدة الانتقادات المصرية الموجهة لحزب الله وحلفائه في لبنان في الوقت نفسه الذي نأت فيه الحكومة المصرية بجانبها عن قوى 14 من آذار بزعامة السيد سعد الحريري.
- التحرك جنوبا لتأمين مياه النيل. اتضح ذلك بجلاء من اختيار السودان لتكون أول دولة يقوم بزيارتها رئيس الوزراء المصري الدكتور عصام شرف. فقد بات واضحا أن منطقة حوض النيل يشكل أولوية جديدة في توجهات السياسة الخارجية المصرية بعد الثورة، ولا سيما بعد دخول اتفاقية التعاون الإطاري لدول حوض النيل حيز التنفيذ، على الرغم من اعتراض كل من مصر والسودان عليها.
التداعيات والمآلات على المدى البعيد
إذا كانت التأثيرات المرتبطة بالتحولات السياسية الكبرى في مصر والمنطقة العربية تتسم على المدى القصير بقدر كبير من الغموض وعدم الوضوح، فإنها قد تفضي على المدى البعيد إلى إعادة صياغة المنطقة العربية بأكملها من الناحية الجيواستراتيجية. ومع الأخذ في الاعتبار التأثيرات السلبية للأزمة المالية العالمية على كل من الولايات المتحدة وأوربا، فإن انتقال مركز الثقل العالمي سيكون لصالح القوى الصاعدة في شرق وجنوب شرق آسيا إضافة إلى القوى المنتجة للطاقة في غرب آسيا. وعلى سبيل المثال فإن بعض التقديرات تشير إلى أن السعودية ستحتل في عام 2050 المرتبة السادسة عالميا من حيث إجمالي الناتج المحلي. ويمكن رسم معالم المشهد الجيواستراتيجي للنظام الإقليمي العربي على ضوء نجاح الثورة المصرية وتحقيق عمليات الإصلاح السياسي السلمي في باقي الدول العربية على النحو التالي:
أولا: تصاعد المد القومي العربي مرة أخرى بما يعنيه ذلك من تدعيم الاعتماد الإقليمي على الذات وإعادة بناء مؤسسات العمل العربي المشترك. ولعل ذلك يتضمن في جوهره أن ترفع القوى الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة يدها عن المنطقة العربية، حيث لا تستطيع توجيه الأحداث فيها.
ثانيا: عودة الروح للدور المصري الفاعل في محيطه الإقليمي، حيث يمكن تصور ظهور محور القاهرة - بغداد - دمشق، مرورا بالرياض. وهو ما يمثل في هذه الحالة قوة دافعة للنظام الإقليمي العربي الجديد.
ثالثا: تقويض دور بعض دول الأركان غير العربية مثل إيران وإسرائيل وإثيوبيا. فالتغييرات الجديدة وإعادة صياغة الأحلاف العربية ستؤدي لا محالة إلى زيادة عزلة إسرائيل وإلى فقدان إيران لجانب كبير من نفوذها ومكانتها في المنطقة. أما إثيوبيا فإنها ستجد نفسها أمام توازن استراتيجي إقليمي جديد يفرض عليها ضرورة التكيف والمواءمة.
وعلى أية حال، فإنه وإن حافظت مصر الثورة على علاقاتها الطبيعية مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل فسيؤدي توجهها الجديد إزاء كل من إيران والقوى الإقليمية الأخرى في الشرق الأوسط وإفريقيا إلى نتائج وآثار هائلة من الناحية الجيواستراتيجية. ولعل ذلك كله يدفع إلى القول بأن ثورة يناير المصرية قد أعادت الروح مرة أخرى إلى مصر في حركتها الخارجية.