في مواجهة سد الألفية العظيم..! نحو إعادة صياغة سياسة مصر المائية

نظر المصريون دوما إلى التهديدات الآتية من جهة الشمال الشرقي لبلادهم على أنها تمثل خطرا محدقا على من يتولى حكم المحروسة، أما التهديدات الآتية من الجنوب ولا سيما من مناطق منابع النيل فإنها ترتبط بأمن وبنية المجتمع المصري ذاته. لا غرو إذن القول بأن مصر هبة النيل وأن تنظر الحكومات المتعاقبة على اختلاف فلسفاتها وأدواتها المستخدمة لتحقيق مصالحها إلى مسألة مياه النيل باعتبارها قضية حياة أو موت فلا يمكن التفريط فيها أبدا.
ويبدو أن السياسة الخارجية المصرية على مدى العقود الثلاثة الماضية قد تهاونت كثيرا في الدفاع عن مصالح مصر المائية وحماية أبسط مبادئ الأمن القومي المصري التي ظلت مستقرة في تقاليد التراث السياسي المصري منذ عهد الدولة القديمة.
وقد نبهنا مرارا من خلال هذا المنبر وغيره إلى أن أمن مصر المائي أصبح في خطر حقيقي عندما قامت دولة بوروندي بالتوقيع على اتفاقية التعاون الإطاري لحوض النيل، وهو ما يسلب مصر حقها في الاعتراض على أية مشروعات تقيمها دول أعالي النيل ويمكن أن تؤثر على حصة مصر من موارد النهر. ولعل قراءة حركة التفاعلات البينية التي تقودها إثيوبيا في حوض النيل تؤكد محاولة الدول النيلية فرض سياسة الأمر الواقع على مصر لتقبل بمبدأ إعادة توزيع مياه النيل وفقا لأسس جديدة.

سد الألفية وتهديد أمن مصر
في يوم الأربعاء الموافق 30 آذار (مارس) 2011 أعلنت إثيوبيا عزمها إنشاء سد عملاق على النيل الأزرق بمحاذاة حدودها مع السودان، ولعل خطورة هذا السد الذي أطلقت عليه إثيوبيا اسم "سد الألفية العظيم" أنه سيؤثر تأثيرا مباشرا على مصالح مصر المائية؛ إذ من المقرر أن تصل طاقة تخزين المياه التي يوفرها سد الألفية ضعف حجم بحيرة تانا، كما يتوقع أن يوفر هذا السد نحو 5200 ميجاواط" من الكهرباء. ومن الملاحظ أن حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زناوي تسعى إلى إنتاج 15000 ميجاواط من الكهرباء في غضون عشر سنوات مقبلة. وطبقا لتقديرات البنك الدولي فإن إثيوبيا تحتل المكانة الثانية في إفريقيا بعد جمهورية الكونغو الديموقراطية من حيث إمكاناتها في إنتاج الطاقة الكهرومائية.
وإذا كانت الحكومات المصرية السابقة في عهد مبارك قد غضت الطرف عن السلوك الإثيوبي في بناء السدود الصغيرة والكبيرة على نهر النيل بحجة أنها تسعى لتأمين حاجات الشعب الإثيوبي من الكهرباء واستخدامات المياه لمشروعات التنمية المختلفة، فإن الأمر اليوم جد مختلف ويحتاج إلى استراتيجية مصرية ذات نفس طويل. إننا لا يمكن أن نعالج أخطاء الماضي في أسبوعين أو شهرين. ولا يمكن في الوقت نفسه استخدام لغة الخطاب السابق نفسه التي تميل إلى "التهوين" والقول إن "كل شيء تمام" حينا أو التهويل والقول بأن مسألة المياه خط أحمر لا يمكن تجاوزه حينا آخر. إن سد الألفية العظيم يحتاج إلى تمويل ضخم قد يصل إلى نحو 4.8 مليار دولار، وهو أمر تنوء بحمله ميزانية إثيوبيا المثقلة بالأعباء والديون. يعني ذلك أن إثيوبيا ستلجأ إلى الجهات الدولية المانحة طلبا لتمويل بناء هذا السد العملاق الذي يؤمل الانتهاء من بنائه بعد أربعة أعوام بالتمام والكمال. فماذا يحدث لمصر إن استطاعت إثيوبيا تأمين التمويل اللازم وتنفيذ بناء هذا المشروع العملاق؟
طبقا لتقديرات خبراء المياه المعتبرين فإن سد الألفية سيؤدي إلى التأثير سلبا على تخزين مياه النيل عند السد العالي في أسوان، كما سيتم انخفاض إنتاج الطاقة الكهربائية في مصر بنسبة 20 في المائة، أضف إلى ذلك أن حصة مصر من مياه النيل ستقل بنحو خمسة مليارات مترمكعب، وهو ما يعني ببساطة شديدة التأثير على حياة خمسة ملايين مصري يعيشون على الزراعة.

ما الخطأ الذي حدث؟
إن نهر النيل الذي يعد أطول أنهار العالم، حيث يبلغ طوله نحو 6600 كيلومتر، يتألف من النيل الأبيض الذي ينبع من البحيرات العظمى وسط إفريقيا، والنيل الأزرق والذي يبدأ عند بحيرة تانا في إثيوبيا. ويلتقي النيليان الأبيض والأزرق في السودان قبل أن يكملا مسيرتهما التي تحمل الخير والنماء إلى أرض الكنانة. وظلت مسيرة النهر تأتي في طريقها من الجنوب إلى الشمال منذ آلاف السنين؛ حتى أضحى المصريون القدماء والمحدثون ينظرون إلى النهر نظرة لا تكاد تخلو من التبجيل والإجلال.
وفي مصر الحديثة التي أسسها محمد على باشا كان التوجه جنوبا، حيث تأمين منابع النيل أحد أبرز محددات السلوك الخارجي المصري ولم تخرج مصر الثورة بعد عام 1952 عن هذا التوجه فجعلت الدائرة الإفريقية أحد أبرز دوائر حركتها الثلاث، التي تضم العربية والإسلامية. وعلى أية حال فقد اعتمدت مصر الحديثة على مجموعة من الاتفاقيات القديمة التي عقدت في العهد الاستعماري مثل اتفاقية عام 1929، التي أعطت لمصر حق الاعتراض على أية مشروعات تقيمها دول أعالي النيل وتضر بمصالح مصر المائية المكتسبة. كما أن اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان أكدت حق مصر التاريخي في مياه النيل والمقدر عند أسوان بنحو 55.5 مليارمترمكعب. بيد أن الإشكالية الكبرى التي واجهت العلاقات الدولية بين دول حوض النيل بعد رحيل الاستعمار تمثلت في عدم اعتراف دول أعالي النيل مثل إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا بهذا النظام القانوني الخاص بنهر النيل والموروث عن العهد الاستعماري.
وعلى أية حال فقد استطاعت دول حوض النيل أن تجتمع ولأول مرة على مبادرة حوض النيل التي أعلن تأسيسها عام 1999؛ وذلك من أجل التوصل إلى اتفاق للتعاون الإطاري يمهد لتأسيس سلطة مشتركة لدول حوض النيل بما يمكّن الجميع من إعادة توزيع واستغلال مياه النيل وفقا لأسس جديدة. بيد أن الموقف المصري، وإلى حد ما السوداني، ظل متمسكا بمبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة لمصر في مياه النيل، وأن تظل مصر محتفظة بحق "الفيتو" إزاء أي مشروعات تقيمها دول الحوض وتؤثر على مصالح مصر المائية.
ولعل خطورة توقيع بوروندي أواخر شباط (فبراير) 2011 على اتفاقية التعاون الإطاري لدول حوض النيل تتمثل في اكتمال النصاب القانوني لدخول الاتفاقية طور النفاذ بعد تصديق جميع الدول الموقعة، وهو ما يعني ضمنا حرمان مصر من حقها التاريخي في الاعتراض على أية مشروعات تقيمها دول حوض النيل وتنال من حقوق مصر التاريخية المكتسبة من مياه النيل.

ما العمل وما آفاق المستقبل؟
إن روح مصر الجديدة بعد ثورة يناير وتغير المشهد السياسي والاجتماعي في معظم دول أعالي النيل يقضيان بضرورة إعادة صياغة قواعد الحركة المصرية تجاه مسألة مياه النيل والدفاع عن مصالح مصر المائية. فمصر بحلول عام 2017 ستعاني شحا في مواردها المائية، ولن تكفيها حصتها الحالية من مياه النيل، وإن ظلت على حالها دون نقصان ،وهو ما يعني أن مصر مقبلة لا محالة على أزمة مائية مستحكمة. كما أن الدول النيلية الأخرى باتت تعاني ضغوطا اقتصادية وسكانية بما يحتم عليها البحث عن تطوير وتنمية مواردها المائية، وذلك حق مشروع. فما العمل؟
يمكن القول، على ضوء استقراء الخبرات التاريخية ومتابعة التطورات التي شهدتها دول أعالي النيل: إنه أمام مصر الثورة ثلاثة خيارات أساسية:
الخيار الأول: التمسك بلغة التصعيد ولا سيما ضد إثيوبيا والتهديد باستخدام الحل العسكري، وهو ما عبر عنه الرئيس الراحل أنور السادات باستعداده استخدام القوة في مواجهة أي خطر يهدد الأمن المائي المصري. ولا أظن أن هذا الخيار مقبول أو عملي في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة.
الخيار الثاني: ويشير إلى تخلي مصر عن مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة الذي يضمن حصتها المقررة من مياه النيل، وهو ما يعني قبول مصر الانضمام إلى اتفاقية التعاون الإطاري الجديدة لدول حوض النيل، بما في ذلك إعادة توزيع مياه النيل بين الدول الأعضاء وفقا لأسس جديدة. وأحسب أن هذا الأمر يمثل تنازلا خطيرا عن أحد المبادئ الحاكمة للأمن القومي المصري ويدخل في إطار سياسة التهوين والقبول بالأمر الواقع الذي تحاول إثيوبيا فرضه على مصر.
الخيار الثالث وهو يشير إلى ضرورة إقامة حوار استراتيجي جديد بين مصر ودول حوض النيل، ولا سيما إثيوبيا على أساس الندية والمصالح المتبادلة والتخلص من رواسب الماضي السلبية التي كرست مجموعة من الصور غير الصحيحة التي ترى بأن مصر تسعى لبسط هيمنتها المنفردة على دول حوض النيل الأخرى.
وإذا تم تبني الخيار الثالث فإنه يحتاج إلى إعادة صياغة التوجه المصري الجديد تجاه إفريقيا بشكل عام وتجاه دول حوض النيل بشكل خاص. وتحتاج عملية إعادة الصياغة تلك إلى تغيرات جوهرية من حيث المبنى ومن حيث المعنى، أي إعادة هيكلة مؤسسة صنع القرار المصري المتعلقة بإفريقيا وإحداث تغيرات جوهرية في السياسات المتبعة. وعلى سبيل المثال، فإن مصر تستطيع أن تدخل في عملية تفاوضية مزدوجة مع الدول المانحة من جهة لمنع تمويل السدود الإثيوبية التي تضر بمصلحة مصر، ومن جهة أخرى تقوم بإجراء حوار شامل مع إثيوبيا لتعظيم المنافع والاستخدام المشترك لموارد مياه النيل. وقد طرح رئيس الوزراء الإثيوبي اقتراحا بأن يكون سد الألفية العظيم مشروعا إثيوبيا مصريا مشتركا، ولعل ذلك يحتاج إلى مزيد من الحوار والتفاوض بين الطرفين. بيد أنه على المدى الطويل والمتوسط يتعين على صانع القرار المصري أن يتحرك في اتجاهين متلازمين، أولهما داخلي، حيث يتم اعتماد خطط قومية لتوفير مصادر أخرى للمياه من جهة والمحافظة على موارد مصر من المياه العذبة من جهة أخرى. أما التحرك الثاني فهو تجاه السودان بشطريه الشمالي والجنوبي، حيث يتم من خلال مشروعات المياه المشتركة تعويض أي نقص محتمل من حصة مصر المائية. وفي جميع الأحوال فإن على مصر الجديدة بعد الثورة أن تولي وجهها شطر الجنوب، حيث يأتي شريان الحياة ليتدفق في عروقها وينبض بالحياة والأمل لمستقبل أفضل للمصريين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي