مشروعية التدخل الدولي العسكري في ليبيا

في مقالنا المنشور في جريدة ''الاقتصادية'' بتاريخ 12/3/2011 بعنوان (ثورة ليبيا وملك ملوك إفريقيا) أشرنا إلى أن ما يحدث في ليبيا لم يعد شأنا داخليا لا يحق للمجتمع الدولي التدخل فيه؛ لأن حقوق الإنسان أصبحت بموجب المواثيق الدولية شأنا دوليا، وأي انتهاك جسيم لهذه الحقوق يستوجب التدخل الدولي الإنساني. وأشرنا أيضا إلى أن التدخل الدولي قد يكون عن طريق فرض عقوبات محددة ضد الدولة المنتهكة لحقوق الإنسان، وقد يكون عسكريا إذا كان ذلك ضروريا لإنهاء مأساة إنسانية؛ ولذلك أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم (1970) بتاريخ 27/2/2011 الذي دعا إلى الوقف النهائي لأعمال العنف واتخاذ تدابير للاستجابة للتطلعات المشروعة للشعب الليبي وفرض عقوبات معينة ضد نظام معمر القذافي. ثم استطردنا وقلنا إذا استمر القذافي في غيه فإنه من غير المستبعد أن يتخذ مجلس الأمن إجراءات أشد صرامة، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لوقف سيلان الدم في ليبيا.
وحدث ما توقعناه. استمر القذافي في استخدام الطائرات والأسلحة الثقيلة المختلفة ضد المدنيين العزل من أجل قمع ثورتهم وتفاقمت الأوضاع الإنسانية سوءا وناشد بعض أعضاء المجلس الوطني الانتقالي الليبي المجتمع الدولي بأن يتحرك ويفرض حظرا جويا على ليبيا لإنقاذ المدنيين من القصف الجوي، واضطر الثوار إلى الانسحاب من المدن التي سيطروا عليها وواصلت قوات القذافي زحفها حتى أصبحت على مشارف مدينة بنغازي، وهي المعقل الأخير للثوار، وهدد الطاغية بأنه سيدك هذه المدينة ويبيد الثائرين بغير رحمة ولا شفقة، ولم يعد بالإمكان السكوت عما حدث من جرائم ومجازر وما قد يحدث من جرائم ومجازر أشد شناعة؛ فطلبت دول مجلس التعاون الخليجي عقد اجتماع لمجلس جامعة الدول العربية للبحث في كيفية وضع حد لجرائم نظام القذافي، وانعقد اجتماع مجلس الجامعة في القاهرة بتاريخ 12/3/2011، وأصدر قرارا تضمن عددا من التدابير والإجراءات، منها دعوة مجلس الأمن إلى تحمل مسؤولياته إزاء تدهور الأوضاع في ليبيا واتخاذ الإجراءات الكفيلة بفرض حظر جوي على حركة الطيران العسكري الليبي فورا وإقامة مناطق آمنة في الأماكن المتعرضة للقصف كإجراءات وقائية تسمح بتوفير الحماية لأبناء الشعب الليبي والمقيمين في ليبيا من مختلف الجنسيات.
لا شك أن مجلس الجامعة العربية كان صائبا في دعوته مجلس الأمن بأن يتحمل مسؤولياته حيال أحداث ليبيا لأن مجلس الأمن يملك بموجب المادة (42) من ميثاق الأمم المتحدة سلطة الترخيص باستخدام القوة المسلحة ضد الدولة التي ترتكب انتهاكا جسيما ومتكررا لحقوق الإنسان، وذلك إذا قدر أن من شأن هذا الانتهاك أن يعرض السلم والأمن الدوليين للخطر.
وبعد تردد وتباطؤ اجتمع مجلس الأمن في مساء يوم الخميس 17/3/2011 وأصدر بأغلبية أصوات الدول الأعضاء قراره رقم (1973)، الذي تضمن عددا من التدابير والإجراءات، منها فرض حظر على جميع رحلات الطيران فوق الأجواء الليبية؛ بهدف حماية المدنيين باستثناء رحلات الإمدادات الإنسانية ومطالبة جميع الدول الأعضاء بعدم السماح لأي طائرة ليبية، بما في ذلك الرحلات التجارية بالهبوط أو الإقلاع من أراضيها، كما دعا القرار جميع الدول الأعضاء إلى اتخاذ (جميع الإجراءات الضرورية) لحماية المدنيين والمناطق السكنية التي تواجه تهديدا في ليبيا، بما في ذلك بنغازي مع استبعاد إرسال قوة احتلال بأي شكل على أي جزء من الأراضي الليبية.
ولا شك أن عبارة (اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية) كانت تعني القيام بإجراء منفرد من جانب كل دولة أو بالتنسيق بين الدول والمنظمات الدولية المعنية بالشأن الليبي، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لحماية المدنيين، وأعرب مجلس الأمن في ديباجة قراره المذكور عن أسفه لاستخدام السلطات الليبية المرتزقة، وأشار إلى إدانة جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي للانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والمبادئ الإنسانية الدولية التي ارتكبت في ليبيا، وأن مجلس الأمن قد تحرك وأصدر قراره بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وجدير بالذكر هنا أن القرارات التي يصدرها مجلس الأمن بموجب أحكام الفصل السابع تتمتع بقوة قانونية ملزمة ويجب على المخاطبين بها تنفيذها ويجوز لمجلس الأمن أن يرخص باستعمال القوة ضد المخالفين لهذه القرارات.
وفي يوم السبت 19/3/2011 بدأت العملية العسكرية المسماة (فجر الأوديسا) التي يقوم بها تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وشرعت قوات هذه الدول في تنفيذ فرض الحظر الجوي على ليبيا وشن غارات على مواقع الدفاع الجوي الليبي وأماكن تجمع قوات القذافي وأهداف عسكرية أخرى، وأدى هذا التدخل العسكري إلى وقف تقدم قوات القذافي، لا بل وتقهقرها واستعاد الثوار السيطرة على عدد من المدن وبدأ زحفهم نحو غرب ليبيا، ولا شك أن فرنسا بقيادة الرئيس نيكولا ساركوزي كان لها الفضل الأول في إنقاذ الثورة الليبية من الانهيار ومنع سقوط مدينة بنغازي في قبضة قوات القذافي، حيث بذلت فرنسا جهدا كبيرا لإقناع المجتمع الدولي بضرورة التحرك السريع لردع القذافي ومنعه من ارتكاب جرائم أخرى ضد المدنيين. كما كانت فرنسا أول دولة تشرع في تنفيذ قرار مجلس الأمن فوجهت قواتها الجوية ضربة سريعة ضد قوات القذافي التي كانت على أبواب مدينة بنغازي فأنقذت المدينة من الدمار، كما أنقذت سكانها من مذبحة مروعة.
ولقد ثمّن الثوار الموقف الفرنسي؛ إذ بعث محمود جبريل، مسؤول في المجلس الوطني الانتقالي، كتابا للرئيس ساركوزي يشكره فيه على ما قام به قائلا (إن الشعب الليبي ينظر إليكم كمحرر، وأن امتنانه لكم دائم)، وشدد على أن الثوار لا يريدون قوات أجنبية على الأراضي الليبية. ومن جهة أخرى، انعقد مؤتمر دولي في لندن يوم الثلاثاء 29/3/2011 شاركت فيه 35 دولة لبحث المسألة الليبية انتهت باتفاق المشاركين على عدد من التدابير والإجراءات، منها استمرار العمليات العسكرية ضد قوات القذافي حتى يستجيب هذا الأخير لقرارات مجلس الأمن، وتشديد العقوبات على نظامه. والتأكيد على أنه لن تكون هناك قوات احتلال بأي شكل من الأشكال وضرورة تنحي القذافي عن السلطة.
لقد وضع القذافي شعب ليبيا والعرب أجمعين أمام خيارين، إما الاستسلام لطغيانه ووحشيته وإما الترحيب بالتدخل العسكري الدولي لإنقاذ شعب ليبيا من الذبح، فكان الخيار الثاني أمرا لا مناص منه.
لقد آن أوان شروق شمس الحرية على ليبيا كما أشرقت على جارتيها تونس ومصر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي