التربية والتغيير الاجتماعي

منذ فجر التاريخ والتربية والتعليم تلعب دوراً بارزاً في التغيرات التي تتعرض لها المجتمعات، وما من شك أن العلاقة التي تمثل هذا التغيير هي علاقة طردية, أي أن مستوى التربية ونوعها يؤثر سلبياً أو إيجابياً في مستوى التغيرات الاجتماعية ونوعها، فإن كانت التربية جيدة ومتقدمة في أطروحاتها ووسائلها وأدواتها وأهدافها وآلياتها, ستحدث بلا شك تغيرات نوعية ومتقدمة في المجالات الصناعية والسياسية والاقتصادية والتنموية، والمجالات كافة. وعلى العكس من ذلك فالتربية المتخلفة الرديئة في أهدافها وأساليبها وأدواتها ستحدث تغييرات وآثارا رديئة، لذا فواقع أي مجتمع هو صورة معبرة عن واقع التربية, أي بمعنى آخر يمكن أن يعرف الفرد واقع التربية وجودتها في أي مجتمع يزوره من خلال الصور الاجتماعية والواقع التنموي والخدمي, الذي يظهر له في المجتمع الذي يزوره.
كثير من المنظرين والمفكرين يقولون إذا أردت أن تعرف واقع المجتمعات ففتش عن التربية فيها, حيث إن عوامل القوة والضعف في المجتمعات ما هي إلا نتاج لواقع الفروق التي نراها بين المجتمعات في تربيتها, وهي انعكاس حقيقي وجوهري لواقع التربية، مجتمعات منتجة في مجالات عدة: سياسية، اقتصادية، ثقافية، وتقنية، في حين مجتمعات أخرى ولقرون ما هي إلا مجتمعات مستهلكة تنتظر ما يصلها من منتجات الآخرين، ولو توقف إنتاج الآخرين لأي سبب من الأسباب إما سياسي، وإما طبيعي كالزلازل أو الأعاصير، وإما بسبب الحروب توشك هذه المجتمعات على الهلاك ما لم يصلها مدد من الآخرين وعونهم.
التربية بكامل قنواتها الرسمية وغير الرسمية، الممنهج وغير الممنهج, تحدث أثرها, لكن الأثر, كما سبق الإشارة إليه, مرهون بمستوى التربية الذي يتعرض له أجيال المجتمع. وبما أن التربية في الأساس تستهدف إعادة صياغة وتكوين الفرد الذي بدوره يسهم في صياغة المجتمع وبنائه، أو إعادة بنائه بالشكل الذي يرتضيه أبناء المجتمع، وبما يتفق مع أهدافه المرسومة التي يفترض أنها تحافظ على هويته، وتمكنه من البقاء مجتمعاً متماسكاً وقوياً في وجه كل ما يمكن أن يؤثر فيه بالشكل الذي يتناسب مع أهدافه وقيمه.
التربية الفاعلة ذات القيمة في حياة المجتمعات تستهدف في الأساس المحافظة على الهوية الاجتماعية متمثلة في اللغة، القيم، الثقافة، الدين، والتاريخ المشترك لأبناء المجتمع الواحد بما له من امتدادات زمنية قد تعود إلى مئات القرون أو آلافه. ومن أجل تحقيق هدف المحافظة على الهوية الموحدة للمجتمع يتم التركيز على مادة التاريخ أو الجغرافيا أو التربية الوطنية أو التربية الاجتماعية, كما يحدث في بعض المجتمعات, إضافة إلى المواد الدينية ومواد اللغة التي تربط الفرد بجذوره، وتشكل أساس الهوية. أما الشق الثاني الذي تستهدفه التربية فهو النماء الاجتماعي متعدد الجوانب، وهذا يتطلب شكلاً مختلفاً من التربية, إذ لا تفيد التربية التقليدية البالية شيئا في هذا المجال. التربية التي يعول عليها لإحداث تغيرات قوية وجوهرية لا بد أن تكون مرنة، قادرة على التجديد في ذاتها، ومكوناتها وفي بيئتها ومضمونها وأساليبها، وهذا ما فطنت إليه الدول الغربية وكذلك أوطان مثل اليابان، كوريا، وماليزيا، التي قررت إحداث تغييرات في واقعها فلجأت إلى تربيتها وبدأت التغيير من هناك، وواقع هذه الأوطان في الوقت الراهن يشهد ويعطي دليلاً لا لبس فيه على أن دور التربية دور أساسي إذا ما أعطيت الفرصة ووفرت الإمكانات لتزاول دورها.
التربية ــــ كما سبقت الإشارة ــــ في مفهومها الشامل الذي يتضمن كل الأنشطة والأوعية في المنزل والمدرسة ووسائل الإعلام والمضمون التربوي الكامن في الثقافة والعادات التقاليد، حتى الأمثال الشعبية، والقصص والشعر, والتربية تشمل مراحل العمر المختلفة وتمتد من مرحلة التمهيدي حتى الدراسات العليا، ولا يمكن قصرها على مرحلة دون أخرى, لكن كلما ارتقى المستوى التربوي والتعليمي لأفراد المجتمع كان ذلك قيمة مضافة تحدث أثرها في أرض واقع المجتمع. الفرق الذي نجده بين المجتمعات في مستواها التنموي والحضاري, بلا شك, مرده التربية, إذ إن دولاً سمحت لنفسها وسعت إلى التجديد والتغيير ولم ترض بالاستمرار على نمط وطريقة تربوية عقيمة, حتى أن بعض المجتمعات أحدثت ما يمكن تسميته التغيير الجذري أو الثوري، ووفرت لمؤسساتها التربوية متطلباتها كافة، وبسخاء لا نظير له, في حين أن مجتمعات أخرى رضيت لنفسها الإبقاء على التربية دون تغيير فيها منذ عقود، حتى أن حال هذه المجتمعات ينطبق عليه المثل القائل ''لكل امرئ من دهره ما تعودا''، وكأن التغيير في واقع التربية مخيف، ويترتب عليه محذور، أو محاذير لا يمكن السماح بحدوثها، ولذا بقيت هذه المجتمعات في وضع سيئ، ومختلف في المجالات كافة, تعاني الفقر والأمراض الاجتماعية، والفساد الإداري وذلك لافتقاد القدرات القادرة على إدارة مؤسسات المجتمع بالشكل الصحيح.
لكي تحدث التربية أثرها الفاعل في واقع المجتمع لا بد من قرارات جريئة تقدم عليها المؤسسة التربوية، أو الجهة التي تخضع لها المؤسسة التربوية كقرار من الحكومة أو من رئيس البلد أو تحرك اجتماعي يسعى ويضغط نحو تربية أفضل في الحاضر والمستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي