Author

القفص الأسود والمفتاح الإلكتروني

|
راسم ابن السادسة عشرة ربيعاً طفل ليبي فقير لكنه حاد الذكاء طموح وعزيز النفس عاش سنينه الماضية وهو لا يعرف من العالم إلا ليبيا أو قل بالتحديد مدينته الصغيرة فيها، وفي ذات يوم وجد مع أحد أصدقائه صفحات من جريدة قديمة فبدأ يتصفحها فإذا في إحدى زواياها مقال عن مبادئ الجماهيرية حسب رؤية الكتاب الأخضر وما تحققه من عدالة اجتماعية وتنموية، وتحت هذا المقال مقال آخر عن النفط الليبي ومكامن الثروة الطبيعية الليبية، استمر راسم في القراءة فإذا بمقال عن حادثة لوكيربي والحصار على ليبيا، وفي الطرف الآخر من الصحيفة صور لأماكن سياحية جميلة في بعض دول العالم تزخر بالمباني الشاهقة والشوارع الفسيحة .. ملأت الدهشة نفسه مما فهمه والأسئلة رأسه مما لم يفهمه من تلك المقالات، وما إن انتهى حتى تبادر في ذهنه بعض المقارنات والتساؤلات ولما نحن إذاً فقراء لهذه الدرجة؟ ولما ليس لدينا مثل تلك المباني أو تلك الشوارع، ما إن عاد لمنزله حتى بادر في سؤال والده بعضا من هذه الأسئلة .. ووالده يتهرب من الإجابة ويقول: انتبه لدراستك وكفى، لم يستطع راسم التوقف وبادر بكل عفوية بقوله: أبي أيهما أقدم ليبيا أم القائد معمر القذافي؟ .. غضب والده كثيراً وضربه على وجهه وهو يقول: ''اسكت يا ولد كفاية .. الجدران لها آذان .. يكفينا ما جرى لأخيك!! .. بكى راسم وحزن قليلاً ولم يجد إجابة .. أي إجابة!! حاله حال معظم الأطفال في هذا العصر يعيش ويكبر في عالمه الجديد بعيداً عن عالم الكبار ولسان حاله يردد: إنّني يا ناس طفل .. أصعد الدنيا .. ولي قلب وعقل فافهموني .. إنّ لي شأني وأمري رغمَ أنّي .. لم أزل في فجر عمري, اسمعوني حيث أحكي ..لا تصيحوا بي: كفاية! إنّ ما عندي مهمّ كله حتى النهاية ''للشاعر فاضل علي''. مرت الأيام وما زالت الأسئلة تولد الأسئلة .. يكبتها في نفسه .. حتى دعاه يوماً صديقه - ابن الجيران - تعال يا راسم شاهد معي ''كمبيوتري'' وتصفح معي الإنترنت اشتراه لي والدي هدية لنجاحي، راسم مشدوهاً بالإنترنت!! كثيرٌ من المواقع والمنتديات تتحدث عن كل شيء!! وتعرض كل شيء!! وتسأل عن كل شيء!! وتجيب عن أي شيء!! مجتمعات من الأصدقاء من كل بقعة في العالم يتبادلون الرسائل والصور .. يلعبون معاً!! ويتحدثون معاً!!، أخذ راسم يتردد على صديقه ليُبحرا معاً في عالم الإنترنت الذي فتح لهما ذراعيه وصدره وآذانه صاغية دوماً لكل ما يريدان البوح به والتعبير عنه!! وفي ذات يوم تعرف راسم على صديق جديد عبر الإنترنت يعيش في دبي .. دبي.. ما هي دبي؟ وأين تقع؟ وصديقه يجيب بكل عشق وحماس .. يتكلم عن ناطحات السحاب وجمال الشوارع والحدائق والأسواق، وجمال القطارات والمتنزهات الترفيهية التي يسيل لها لعاب الأطفال من كل العالم!! ويبعث له الصور الثابتة والمتحركة عن هذه المدينة الساحرة الآن وبعض من صور المدينة قبل ثلاثين سنة فقط .. راسم: ياه.. كم تطورت هذه المدينة في هذه المدة، من أين أتوا بكل هذه الأموال لبنائها؟ أجاب صديقه: البترول .. غص راسم بِريقه وقال بصوت مُنخفِض ولكن ليبيا فيها بترول، فلِمَ لم نصبح هكذا؟! فجأة سمع صوت أحدهم يدخل عند صديقه ''الإنترنتي الجديد'' ويسلم عليه ويمازحه قليلاً، فلما عاد قال لراسم: هذا أخي أتى من أستراليا، فهو يدرس في الجامعة هناك، ثم بادر بسؤال راسم: هل لديك أخ أكبر منك؟ أجاب راسم بحرقة: نعم ولكنه مات في ''سجن أبو سليم'' وكان عمري سنتين، وما هو هذا السجن؟ لا إجابة لدى راسم!! لكنه وجد من يجيب له عن كل أسئلته ''جوجل'' و''الفيسبوك'' و''ويكيبيديا'' وغيرها .. وكلها تتحدث عن ''مجزرة سجن أبو سليم''، بدأت نفسية راسم تتغير وأفكاره تتبلور ويرى العالم حوله بشكل آخر, فاشتاق ليرى بلده تتغير وتتطور وتنعم بالحرية كما يحلم كل حُر أبيّ: أعطني حُريتي أطلق يديّ *** إنني أعطيت ما استبقيتُ شيّ آه من قيـــدك أدمى مِعصمي *** لم اُبقِيــهِ و ما أبقـى علـيّ ما احتفاظي بِعُهُود لم تصنها *** و إلامَ الأسـر و الـدنيا لـديّ ''إبراهيم ناجي'' لقد تكشفت لهذا الطفل الحقيقة حول هذا الصنم المتجبر .. أكثر من أربعين عاماً من الكبت وسلب الإرادة وقهر الطموح وتحطيم الآمال وتكميم الأفواه, عاشها الليبيون تحت سلطة هذا الطاغية غريب الأطوار يظهر بزي مختلف في كل مناسبة وكأنه رجل من عالم آخر لا ينتمي لذلك البلد ولا إلى أي بلد، فهو يعيش حالة من العظمة مصحوبة بحالات من الهلوسة التي اتهم بها أبناء شعبه الكريم في تبرير منه لسفك دمائهم البريئة وإزهاق لأرواحهم العطشى لهواء وماء الحرية والكرامة والعيش بإنسانية، كما تعيش معظم الشعوب الحرة على هذه الأرض، لقد حول القذافي وطنه إلى قفص أسود يعزل فيه أبناء ليبيا الأحرار عن واقعهم فلا يريهم إلا ما يرى ولا يمنحهم إلا ما أراد وهذا شأن الطغيان في أوضح صوره، كما أخبر الله تعالى عن فرعون الطاغية: ''.. قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ'' (29) غافر، أيام وإذا بأحداث الثورة الليبية تتفاعل وهذا الطفل البائس ثائر، فخرج مع من خرج ليواجه بصدره الصغير رصاص مرتزقة القذافي وهو يمسك بيده حجرا ويردد أبياتاً للشاعر أحمد مطر: أنا شاهد المذبحة .. وشهيد الخريطة .. أنا ولد الكلمات البسيطة رأيت الحصى أجنحة .. رأيت الندى أسلحة عندما أغلقوا باب قلبي عليّاً .. وأقاموا الحواجز فيّا ومنع التجوّل .. صار قلبي حارة .. وضلوعي حجارة ودمتم بخير وسعادة.
إنشرها