حكمنا الصالح بديل الديمقراطية
(1)
ابتداء أنصح اثنين عليهما ألا يقرآ مقالتي، على الأقل هذه الفترة، وهما: إنسان عيناه لا تغادر قناة الجزيرة مباشر أو المواقع الإلكترونية السياسية، لسببين، وهما: أن زعيم الجماهيرية العظمى يجعل الحليم حيران، أما غير الحليم فسيُجنّ لا محالة، والسبب الثاني أن العالم الافتراضي يغرق بك في التفاصيل، وهذه التفاصيل لا تسَلَم من الصحة أو الحرب النفسية المنظمة أو الظن أو الكذب، فما بالك إذا تزاوجا القناة والإنترنت اللذان سيحدثان رأيا لا أقول إنه غير مخلص أو صالح، لا.. لا.. إنما هو رأي لا ينفع لأن يكون موقفا فكريا، فالفكر عابر للزمن الآني والمأزوم، وحياة الشعوب وقضاياها الكلية لا يمكن البت فيها بالعواطف المقدّرة.
أما الإنسان الثاني فهو الليبرالي العربي المحترق اللذي ينطبق عليه المثل: "عنز ولو طارت" ويطالب باستنساخ النظام السياسي الغربي كما استنسخت النعجة "دولي" فهو يقول إما الديمقراطية أو الجحيم، فهو يرى أن الإسلام دين فحسب "العلمانية"، ولا يريد أن يستمع لقول الدكتور غير الوهابي بطبيعة الحال "فزجرالد": "ليس الإسلام دينا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضا، وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن التفكير الإسلامي قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر".
قام المجتمع الدولي من هيئات ومؤسسات وفعاليات سياسية واقتصادية وتنموية اجتماعية بتقييم تجربة الديمقراطية بالعالم النامي وقد اكتشف هؤلاء أنها ضعيفة في الجوهر قوية في المظهر، ذلك أن أغلب الدول استجابت لرغبات تلك القوى المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية؛ طمعا في مساعدات اقتصادية أو بحثا عن استقرار سياسي "شرعية" فقامت بسَنّ تشريعات وقوانين بإنشاء مؤسسات وهياكل مدنية مثل البرلمانات والأحزاب، ثم كانت النتائج ضحلة ما دفع للتفكير جديا في احترام خصوصية وتجربة كل مجتمع إنساني وإطلاق مفهوم الحكم الرشيد أو الصالح أو الجيد الذي يركز على أسلوب إدارة الحكم ووضع معايير كمؤشرات لقياس مدى تحقيق الحكم لمخرجات تساهم في تنمية إنسانية مستدامة.
(2)
يُعرّف البنك الدولي مفهوم الحكم الصالح بأنها: "الطريقة التي تباشر بها السلطة في إدارة موارد الدولة الاقتصادية والاجتماعية بهدف تحقيق التنمية".
أما الحكم الصالح من منظور التنمية الإنسانية فيقصد به: "الحكم الذي يعزز ويدعم ويصون رفاه الإنسان ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ولا سيما بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقرا".
قام معهد البنك الدولي بوضع مؤشرات للإدارة الرشيدة والحكم الصالح لمساعدة الدول النامية والدول والمنظمات المانحة على تتبع أدائها وبيان مدى نجاح جهودها لبناء قدراتها وتحسين الإدارة الرشيدة وتعزيز الشفافية؛ إذ ينظر لها كمكوّن رئيس من مكونات التنمية المستدامة والمناخ الاستثماري السليم ويستند صندوق مواجهة تحديات الألفية Millennium Challeges Account إلى نتائج مؤشرات الإدارة الرشيدة في قراراته لتخصيص المساعدات للدول النامية الأقل دخلا.
إن تلك المؤشرات هي رؤية حصيلة استقصاء أكثر من خمسة وعشرون مصدرا مشغّلا تابعا لمنظمات عالمية مختلفة ومسوحات قُطرية أطلقت مؤشرات أو مبادئ للحكم، هي: "المشاركة السياسية، المساءلة، الاستقرار السياسي، فعالية الحكومة، البنية الإجرائية، حكم القانون، محاربة الفساد".
ويبقى أن تلك المؤشرات أيضا خاضعة لثقافة عالمية سائدة ومنتصرة، حيث هيمنة الليبرالية السياسية والاقتصادية؛ ولذا أحسنت هيئة الأمم المتحدة ومن خلال منظماتها المتخصصة من جعل تلك المعايير أو المؤشرات هي حصيلة إبداع اجتماعي محلي وطني مستلهمة المقاربات والممارسات الإقليمية والعالمية الناجحة، حيث ينص تقرير التنمية الإنسانية على: "أن بناء التنمية الإنسانية يتطلب إبداعا اجتماعيا، لا يقدر عليه إلا أهل كل مجتمع عربي لأنفسهم، بأنفسهم".
إن التقرير يكتفي برسم الملامح الرئيسة لما يمكن أن يعد رؤية استراتيجية تنير الطريق لبناء التنمية الإنسانية، على أن تتعهدها القوى الحية في أي مجتمع عربي بالنقاش الجاد أولا، واختلافا حين يكون مبررا".
إذاً فالمجتمع المدني العربي عليه أن يناقش مبادئ ومؤشرات الإدارة الرشيدة بعيدا عن النظرية السياسية: "الديمقراطية" ذات الدستور المنبثق من مفهوم حكم الشعب ومؤسساته الحزبية النابعة من التطور التاريخي والسياسي والعسكري والفكري الغربي ممثلا بالمدرسة الاجتماعية الليبرالية ونظريته الاقتصادية: "الرأسمالية".
(3)
قلت في مقالتي "نظامنا السياسي": إن النظام السياسي في الإسلام يقوم على مبدأين، هما سيادة الشريعة الإسلامية فهو الإطار القيمي والفلسفي والأخلاقي للحكام والمحكومين، وهو الحق المطلق الذي يرجعون له عند الفصل أو التخاصم والمتضمن كافة الحقوق والحريات الأساسية التي يحتاج إليها الإنسان، والمبدأ الثاني هو العدل بإنفاذ المقدس الثابت المنصوص عليه أو اجتهاد الحاكم أو من ينيبه باستخدام الأدوات الأصولية في فقه التعزير أو المصلحة التي يتوصل لها الحاكم بقوة فضيلته السياسية وهي النسبة الأغلب من القرارات السياسية للحاكم أو المؤسسات التي ينشئها ثم ينيبها للممارسة وهي مقصود الشرع.
إن النظام السياسي السعودي يتمثل تلك السياسة الشرعية وهو النموذج المعاصر للتراث السياسي العربي والإسلامي كامتداد لدولة الإسلام من عصر الراشدين، ثم بني أمية والعباسيين والعثمانيين.
إن النظام السياسي السعودي يرتكز في ممارسته السياسية على النظام الأساسي للحكم وهو دستور الدولة الذي يتكون من ثلاث وثمانين مادة، وقد جاءت هذه المواد موزعة في تسعة أبواب: "المبادئ العامة – نظام الحكم – مقومات المجتمع – المبادئ الاقتصادية – الحقوق والواجبات – سلطات الدولة – الشؤون المالية – أجهزة الرقابة".
إن مفهوم الحكم الصالح هو بديل الديمقراطية وجوهر الحكم الصالح هو نظامنا السياسي في الإسلام وجوهر النظام السياسي السعودي هو النظام السياسي في الإسلام، وعليه فإن جوهر النظام السعودي هو الحكم الصالح.
علينا كسعوديين أن نتصرف كأوصياء على النظرية السياسية السنية فنحن ورثة الكبار؛ لكن هذا الامتياز لجزيرة العرب يحمّلنا مسؤولية البحث عن الأفضل بالتطوير والتحديث ونكون كداهية القرن الرابع عشر الملك عبد العزيز ابن سعود.. حيث يحكى أنه ذات يوم كان بحضرة بعض محبيه، فقال أحدهم: جعل الله يغيّر علينا يا عبد العزيز.. ففزع القوم.. وبدأوا يناوشونه بالسبّ على أن ينتقلوا بعدها لشيء آخر!! بعد أن يرقبوا ردّة فعل الإمام كبير المجلس.. بل كبير الدولة.. بل كبير التوحيد بالتوحيد الكبير... الناس بطبيعتها أعداء ما تجهل ويخافون المستقبل.. إن الحكماء فقط يتريثون فيستمعون ثم يشاورون فيتخذون القرار وينفذونه في التوقيت المناسب.. فقال الإمام الكبير: ماذا تقصد؟ قال يا عبد العزيز: أسأل الله أن يغيّر علينا للأفضل.. فضحك الجميع بعد أن فهموا بأن ليس كل تغيير يعني إنكارا للمعاش أو تنكرا للماضي أو أن القادم أسوأ..
(4)
إن التحديات الثقافية الدولية التي تواجه نظامنا السياسي السعودي ممثلة بالمجتمع الدولي من هيئات ومنظمات رسمية وأهلية أو التحديات الإقليمية السياسية والعسكرية، فضلا عن تغير الداخل السعودي اجتماعيا، حيث يمثل الشباب أكثر من (60 في المائة) من السكان يحتاجون فيه إلى خطاب سياسي قيمي ودولي معاصر، وبروز طبقة وسطى فاعلة ومنفعلة فكريا؛ ما حدا بالدولة وبنزعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز التجديدية أن تجاري كل تلك التطورات عبر إطلاق مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني الذي ناقش ويناقش معضلات التنمية الإنسانية مباشرة مع القواعد الشعبية والمؤثرة ونقل ثقافة الحوار إلى المدارس السعودية ثم إنشاء هيئة حقوق الإنسان التي ترعى الحريات الأساسية وسبل ترسيخها كممارسة حياتية في المجتمع السعودي، في حين تضاعفت أعداد المنظمات الأهلية والخيرية إلى الضعف توازى معها دعم مبادرات طوعية للشباب والترخيص لمؤسسات نقابية وجمعيات أكاديمية كما حدث تطور تاريخي يحتاج إلى تعزيز عبر تنظيم الانتخابات البلدية والغرف التجارية والسماح للمرأة بالتصويت.
إن السعوديين لمسوا أثر تلك التنمية السياسية والارتفاع الكبير في هامش الحرية السياسية المنعكس في ارتفاع سقف الإعلام الوطني الرسمي والخاص وقد سمعتها من مسؤول إعلامي خليجي كبير ومرموق وإذا تركت الأصوات الشاذة من هنا وهناك فالحقيقة العلمية تجعلك تُكبر ذلك النضج السياسي الذي مارسه السعوديون.
إن هذه المسيرة لا تحتاج إلى دعوات تنادي بالقفز على نظام الشورى إلى الديمقراطية أو التفكير بعيدا عن واقع علم الاجتماع السياسي والتفريق بين الرغبة والقدرة، بل نحتاج إلى مأسسة أكبر لتظهير مفهوم الحكم الصالح عبر وزارة مختصة تسمى: "وزارة التنمية السياسية" تجمع فيها كل تلك الهياكل والمبادرات والأنشطة من أجل أن تعمل نحو رؤية سياسية منهجية موحدة في إطار زمني محدد قابل للقياس والمراجعة والتقييم، ثم التقويم على أن تطلع هذه الوزارة بالتحديث السياسي باجتراح معايير الحكم الصالح الخاصة بنا، ومنها: "تطبيق الشريعة الإسلامية، والحسبة، والاستقرار السياسي، والزكاة، والآثار التوزيعية للاقتصاد، وجودة التعليم، وكفاءة الإدارة الحكومية، وفاعلية الرقابة، ومساهمة المؤسسات الطوعية" ما يحتاج إلى تضافر جهود علماء الشريعة الأصوليين ذوي الخلفيات القانونية الدولية المتينة، وكذلك كبار الساسة السعوديون نحو تظهير نظامنا السياسي القادر على استيعاب التحديات الدولية والإقليمية والمحلية، ليس ذلك فحسب، بل تقديمه في قوالب عصرية على أنه البديل الصالح للعالم العربي والإسلامي يقول د. عبد الحميد متولي في كتابه مبادئ نظام الحكم في الإسلام: "إن النهوض بالفقه الدستوري الإسلامي لا يمكن أن يكون سبيله الجمود والتقليد ولا يمكن بداهة أن يتم في العصر الحديث - عصر التخصص - إلا على أيدي أساتذة متخصصين بالقانون الدستوري ممن جمعوا إلى جانب الثقافة القانونية الثقافة الفقهية الإسلامية".
(5)
إن نظامنا السياسي السعودي حكم صالح يحتاج إلى تظهير بتعاون العلماء الربانيين المقاصديين وكبار الساسة تحت راية التوحيد وتوحيد الراية؛ ليصبح مفخرة وطنية تُعمّق الانتماء ونموذجا عالميا مقنعا مع ابتداع تقنيات حديثة للإدارة التنموية يقودها نبلاء مخضرمون وجدد يعززون الفضيلة السياسية فتنتج تنمية مستدامة تؤثر في المواطنين مباشرة بعيدا عن الديمقراطية التي هي في طور الأفول كصيرورة تاريخية إنسانية، إما بسبب إفلاس داخلي أو فلسفي خارجي توّج باحتلال العراق وأفغانستان ومصادرة حرية المسلمين الدينية في أوروبا وازدواجية المعايير الحقوقية ضد العرب بالانحياز العنصري للتوراة المحرّفة.
أيها السعوديون.. نحن أصحاب الفكرة الأولى وامتداد القادة.