تونس ومصر ودروس للتاريخ
عندما تحدثت في المقال السابق عن أهمية قراءة التاريخ لرسم المستقبل، وأن قراءة التاريخ واستنباط الدروس والعبر وجعلها المساعدة لنا لرسم مستقبل أفضل، كنت أهدف من ذلك إلى أهمية استحضار الماضي والتاريخ الذي يحمله من أحداث وعبر. وجاء تعليق أحد الإخوة القراء للتأكيد على أهمية التعمق في ذلك، واستشهد آخر بالقرآن الكريم وتطرقه للماضي من أجل المستقبل. والشواهد في القرآن كثيرة على أهمية الاستفادة من قصص الأمم الغابرة وتعاقبها وتشابه أحداثها في كثير من المواقع والأحداث.
إن ما جرى ويجري من ثورة سلمية راقية بدأت في تونس وتمر اليوم بمصر، تحمل الكثير من الدروس والعبر التي تساعد على معرفة الأسباب وسبل تجنبها، ومعرفة الحقيقة والتعلم منها لرسم مستقبل أفضل للإنسان في كل دوله. ومع أن الأحداث لم تنته بعد، ولكن بالرجوع إلى أسباب ثورة الشباب في تونس ومصر، وما يمكن أن نستنبط منها من الدروس والعبر التي تساعدنا على قراءة الأحداث حتى إن ما زلنا نعيش فيها ولا نعلم عن نهايتها، وثمارها ونتاجها، ولكنها ثورة شباب صادق يريد لوطنه الأفضل.
إن ثورة مصر ليست ثورة جياع كما يعتقد البعض، أو أنها ثورة مؤامرات ومصالح حزبية، وإنما هي ثورة تصحيح لمفاهيم إدارية وسياسية وتنموية خرجت عن جادة الصواب، وتجاوزت كل إمكانات الإصلاح أو التعديل، أو حتى الصبر عليها. ومع أن الجميع من المشاركين والمشاهدين والمحللين والمتابعين لها لهم أسبابهم حول ما حدث ويحدث من احتكار للسلطة، وطول مدة بقاء الرئيس، وكبر سنه، وعجزه عن متابعة الأمور، إلى الخوف من أن يتحول الحكم إلى حكم وراثي من الرئيس لابنه، ثم إلى سيطرة الحزب الواحد الطاغي والمستغل لكل فرص الاستثمار والعمل والحياة، إضافة إلى وجود فئة تحيط بالرئيس وتغيبه عن الحياة العامة، ونظام طوارئ يسمح لأصغر جندي أن يوقف ويسجن من يخالفه الرأي دون سبب أو محاكمة، حتى أن السجون امتلأت من الموقوفين دون سبب وقائمة الأسباب عديدة ومتعددة. ولكن ما استوقفني كثيرا وسبق لي الحديث والكتابة عنه، هو الخلط السيئ بين مفهوم التنمية والاستثمار، واستقطاب كفاءات اقتصاديه تملك شركات وأعمالا ومصالح خاصة لقيادة دفة الإدارة الحكومية وعملها من خلال الاستثمار والاستثمار فقط دون النظر للأبعاد التنموية الأخرى التي يحتاج إليها المجتمع في مختلف مشارب الحياة.
الاستثمار إذا لم تضبطه متطلبات التنمية فإنه يقود سفينة أي دولة نحو الهاوية، والقراءة المتأنية للأحداث الأخيرة يبرز هذا الأمر بشكل واضح وصريح، ولعل مثال الهزة الاقتصادية العالمية التي نعيشها منذ ثلاث سنوات أو أكثر، جاء نتيجة طغيان النظرة الاستثمارية البحتة على النظرة التنموية المتزنة. والنظرة الاستثمارية البحتة هي التي تركز على مفهوم الجدوى الاقتصادية، وتنطلق من أن أي مشروع ليس له جدوى اقتصادية، فإنه مشروع فاشل ويجب عدم دعمه دون النظر إلى أهميته الاجتماعية والسياسية والأمنية والبيئية. والنظر فقط للجدوى الاقتصادية من خلال المفهوم الاستثماري، أوجد فجوة مجتمعية عالية ومهمة أدت إلى زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وأضعفت الطبقة الوسطى القادرة على تحقيق التوازن المجتمعي داخل الدولة.
وفي ظل غياب الأخذ بالتنمية المتوازنة والشاملة، وتأصيل وتأكيد النظرة الاستثمارية البحتة، زادت الفجوة التنموية. وأضيف إليها أن رجال الاقتصاد والاستثمار أصبحوا هم رجال الحكومة، وهذا أدى أيضاً إلى المزيد من تأصيل وتفعيل وتنفيذ النظرة الاقتصادية الاستثمارية البحتة، ودفعت بالوزراء التجار إلى عدم الاهتمام بالبعد التنموي في النظرة الاقتصادية. وهو ما أدى إلى غياب الاهتمام بالمتطلبات المجتمعية لشريحة واسعة من السكان أغلبهم من فئة الشباب المتعلم الذي وجد نفسه بعد جهد سنين من الدراسة والتعلم خارج إطار العمل وفرصته، وخارج إطار اهتمام رجال الحكومة من التجار ورجال الأعمال. وفي المقابل أنصب اهتمام الوزراء من رجال الأعمال على تنفيذ أجندتهم الاقتصادية البحتة ودخولهم بقصد أو بغير قصد في البداية في شركات خاصة ودخول شركاتهم أو ما يرأسون مجالس إداراتها في أعمال وزاراتهم أو إداراتهم مما جعل هناك خلطا غير صحيح أو مؤسسي لهذه العلاقة بين سلطة الحكومة وسلطة المال. وأصبح رجال الأعمال وموظفوهم يقودون الوزارات، وهذا أدى مع الوقت إلى ضررين أساسيين، الأول تداخل المصالح بين القطاعين العام والخاص، وهنا غلب الوزير التاجر دوره ومصالحه على الوزير الحكومي. وهذا أمر يطول شرحه ولي عودة له ـــ بإذن الله ـــ، والثاني أصبح دخول موظفي الشركات الخاصة إلى القطاع الحكومي وتهميش العاملين في القطاع الحكومي سببا في ضعف أداء الفريقين وتصادم مصالحهم.
أعلم أن الحديث والتحليل لما جرى ويجري خلال هذه الحقبة يحتاج إلى شيء من الوقت حتى تتم قراءته بشكل متأن واستنباط الدروس المتعمقة للاستفادة منها في عدم تكرار ما حدث، إلا أن الإطلاع على ما حدث من اهتزاز اقتصادي عالمي وربما يقود إلى انهيار اقتصادي كامل ومدمر على مستوى العالم خصوصاً في الولايات المتحدة، وتدخل الحكومة المركزية عدة مرات لتصحيح التجاوزات المالية والاقتصادية التي أحدثها انفراد القطاع الخاص بقيادة التنمية من منظور اقتصادي بحت. وما نعيشه اليوم من أحداث تدور رحاها في جمهورية مصر العربية من تداخل بين القطاعين العام والخاص، وفرض رؤية القطاع الواحد، وازدياد نسبة تجاوزاته، وما سببه ذلك التجاوز من فساد غير مسبوق ليس في سرقة المال العام فقط ، ولكن في انهيار النظام بكامله نتيجة الخلل الذي صاحب تلك الفترة، وتداخل المسؤوليات بين القطاعات.
إن استقرار الدولة، وضمان تطويرها ونموها وتنميتها يوجب إيضاح المسؤولية والصلاحيات بين قطاعاتها المختلفة من حكومية، وخاصة، وأهلية، وأكاديمية، وإعلامية، حيث يحقق التوازن بينها ويكون كل قطاع منها داعما للقطاعات الأخرى، وفي الوقت نفسه رقيبا عليها ومقوم لها. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
وقفة تأمل:
''لنكن أرواحا راقية نتسامى عن سفاسف الأمور وعن كل ما يخدش نقاءنا، نحترم ذاتنا ونحترم الغير، فعندما نتحدث نتحدث بعمق ونطلب بأدب، ونشكر بذوق، ونعتذر بصدق، نترفع عن التفاهات والقيل والقال''.