سقوط الديمقراطية...

(1)
سقط النظام السياسي التونسي فسقطت التجربة العلمانية الديمقراطية الرائدة في العالم العربي التي تغنّى بها الليبراليون العرب.. والسؤال هل سبب السقوط النظام الديمقراطي ذاته، أم لسبب بيئة التطبيق أم سوء الممارسة؟

(2)
تعرّف الديمقراطية بأنها نظام سياسي - اجتماعي يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأ المساواة بين المواطنين ومشاركتهم الحرة في صناعة التشريعات التي تنظم حياتهم وبما يحفظ حقوقهم وحرياتهم المدنية. أما أساس هذه النظرة فيعود إلى المبدأ القائل بأن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر الشرعية، أما اشتقاق التعبير فيعود إلى كلمة يونانية بنفس اللفظ وتعني حرفيا ''حكم الشعب'' أي حكم ''الأكثرية''؛ كي تميز نفسها عن الحكم الفردي أو حكم الأقلية ''الارستقراطية''.
تقوم الديمقراطية على مبدأ فصل السلطات، فإن أي نظام حكم يقوم على ثلاث وظائف: (التشريع، التنفيذ، القضاء) والفصل يقصد بها ألا تجتمع مختلف وظائف الدولة، أي سلطاتها، في يد أو هيئة واحدة، ويعتبر أرسطو هو أول من نادى بمبدأ فصل السلطات، إلا أنه نسب إلى مونتسكو صاحب كتاب ''روح الشرائع'' حين أعطى المبدأ صياغة وعرضا دقيقا، وفي ذلك يقول مونتسكو: ''لقد أثبتت التجارب الأبدية أن كل إنسان يتمتع بسلطة؛ يسيء استعمالها؛ إذ يتمادى في هذا الاستعمال حتى يجد حدودا توقفه، إن الفضيلة نفسها في حاجة إلى الحدود، وللوصول إلى عدم إساءة استعمال السلطة يجب أن يكون النظام قائما على أساس أن السلطة تحد من السلطة''.
إن الديمقراطية الغربية نبعت من تطور تاريخي سياسي وعسكري وفكري ممثلا بالمدرسة الاجتماعية الليبرالية، يقول الطيب بوعزّة في كتابه ''نقد الليبرالية'': ''وبرجع لفظ الليبرالية من حيث الاشتقاق اللغوي إلى اللفظ اللاتيني ''ليبراليس'' الذي يعني ''الشخص الكريم، النبيل، الحر'' والشخص الحر هو المعنى الذي سيكون مرتكز البناء الدلالي للمفهوم الليبرالي نهاية القرن الثامن عشر حين لم يكن لفظ الليبرالية متداولا، بل كانت كلمة ''ليبرال liberal'' هي الشائعة، وقصد بها حينئذ ''الشخص المتحرر فكريا''، إلا أن اللفظ أخذ شكله النهائي في القرن التاسع عشر كمذهب له أساسه الفكري ''ليبرالية liberalism'' ونظريته السياسية ''الديمقراطية'' ونظريته الاقتصادية ''الرأسمالية''... فالليبرالية من الناحية الفكرية تعني ''حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير، ومن الناحية الاقتصادية تعني حرية الملكية الشخصية، وحرية الفعل الاقتصادي المنتظم وفق قانون السوق، وعلى المستوى السياسي تعني حرية التجمع وتأسيس الأحزاب واختيار السلطة.. إن سقوط مفهوم الديمقراطية هو المعرّف آنفا هو ما سأتحدث عنه، ثم سأتناول: ''سقوط الرأسمالية'' ثم ''سقوط الليبرالية'' بمقالتين تاليتين.

(3)
إن الديمقراطية كنظام أخلاقي ''فكري'' وسياسي للحكم حقق نجاحا وإخفاقا متفاوتا ونسبيا وغير مطلق بحسب الظروف المحيطة بكل أمة قومية غربية، فهي تجربة إنسانية بحتة قبلتها أوروبا الغربية كفرنسا وبريطانيا ورفضتها أوروبا الشرقية فأنتجت النازية القومية والفاشية الإيطالية والشيوعية الروسية، في حين قامت الدول الإسكندينافية بإنتاج نظام سياسي مختلط بين الديمقراطية والاشتراكية المركزية.
لقد حاول المفكر الأمريكي فيكوهما تصوير الديمقراطية على أنها النظام الفكري والأخلاقي والسياسي والاقتصادي السامي والنهائي المقدس، وهو ما يؤمن به غالب المفكرين بالولايات المتحدة الأمريكية قبل غزو العراق في حين أنه تطور تاريخي خاص؛ فعلى البرغم من جاذبية الفكرة النظرية لمفهوم الحرية والعدالة، إلا أن استقراء السياق التاريخي يثبت أن الديكتاتورية الغربية انتقلت من سلطة الإمبراطوريات في العهد الهلنستي ثم البيزنطي ثم حكم الكنيسة ''الحكم الإلهي''، ثم إلى الملكية والنبلاء والإقطاع في القرون الخامس والسادس والسابع عشر المؤيدة من علماء الإصلاح الديني، ثم بروز الدولة القومية العلمانية تتويجا لعصر الأنوار ''النهضة'' والثورة الفرنسية التي أعادت إنتاج احتكار السلطة في يد البرجوازية الرأسمالية، حيث يقول كارل ماركس منظّر الشيوعية - التي جاءت كردة فعل على الليبرالية التي أنتجت الرأسمالية المتوحشة بعد الثورة الصناعية فأعادت استعباد الناس تحت شعار حرية الملكية الفردية: ''إن الديمقراطية مرحلة تاريخية تبرز نتيجة نشؤ المجتمع الرأسمالي البرجوازي الذي يقوم بتولي مهمة إنهاء النظام الإقطاعي والأرستقراطي فتلجأ إلى استخدام الدول كأداة قهر طبقية للحفاظ على الملكية، وتتحول مع تغير طبيعة علاقات الإنتاج تدريجيا إلى نظام تسلط غير ديمقراطي يحول دون حصول الطبقة على حقوقها ''لقد أصابت الاشتراكية في انتقادها للديمقراطية الليبرالية، ولا سيما عندما ذهبت إلى القول أن الديمقراطية الحقيقية لا تكوّن حكم الأغلبية إلا إذا كانت نتائج الديمقراطية الاقتصادية لصالح الأغلبية؛ فجوهر الفكر الديمقراطي المساواة الذي لا يمكن أن تستخدمه في السياسة وتبعده اقتصاديا واجتماعيا فتفرغ الديمقراطية من مضمونها التي أعادت إنتاج احتكار القلة للرأسمال وضنك الطبقة الوسطى عبر إثقالها بنظام ضريبي عالٍ، وإشغالها بلقمة العيش في حين تعاني المرأة والأقليات من تمييز عنصري، فيما تقوم النخب السياسية بالتعويض خارجيا نحو نهب مقدرات الشعوب النامية إما بالاستعمار الاقتصادي أو الغزو لمسلح''.
لا بد من القول إن الأنظمة الديمقراطية الليبرالية قد تمكنت من بناء نُظم عادلة وصناعة منتجات وخدمات معرفية ومادية حضارية انعكست إيجابيا على رفاهية الفرد الذي وصلت أوجها خلال قرن من الزمان، أما الآن فهي إلى صيرورة الديكتاتورية الديمقراطية، وأقول إن هذا النظام يعاني من مشكلة هيكلية لن يخرج منها فالقلة الفنية تسيطر على كل شي، بما في ذلك وسائل الإعلام والتأثير والرأي العام على المقترعين، وبالتالي على صنّاع القرارات، ثم إن الطبقات محدودة الدخل التي بدأت في الازدياد بقوة في المجتمعات الرأسمالية أقل وعيا وحماسة وقدرة على المشاركة في الحياة العامة، كما أنها أضعف إمكانية في توفير المصادر الضرورية والكافية لبناء التنظيمات السياسية؛ ما جعل الديمقراطية طريقا آخر لإعادة تمركز الملكية ووسائل الإنتاج التي جاءت للقضاء عليها''.
يقول ''آل جور'' في كتابه ''هجوم على العقل'': ''تتعرض ديمقراطيتنا لخطر تفريغها من معناها. ففي الواقع تشترى أصوات الناخبين في بعض الأحيان بمجرد خلق طلب زائف على منتجات جديدة، ومنذ عقود مضت كتب الصحفي والمعلق السياسي الأمريكي والتر ليمان يقول: ''يفترض أن صناعة الموافقة والقبول.. ماتت مع ظهور الديمقراطية.. لكنها لم تندثر فلقد تحور أسلوبها في الواقع – بصورة هائلة.. تحت تأثير الدعاية ولم يعد من المقبول الإيمان بالمبدأ الأصلي للديمقراطية''.
ما أود أن أخلص إليه أن النظام الديمقراطي الغربي في طور الأفول كصيرورة تاريخية إنسانية، إما بسبب إفلاس داخلي أو فلسفي خارجي توّج باحتلال العراق وأفغانستان، والسقوط الكبير الذي أعنيه هو سقوط قداسته الفكرية وستخضع مبادئه لانتقاء كأي فكر إنساني أرضي آخر، كما أن القرن القادم سيكون قرن العقائد والمذاهب الدينية.

(4)
في العالم النامي، وتونس جزء منه وقعت في الخطأ الإستراتيجي الفادح بعد الاستقلال حينما تبنت الليبرالية والعلمانية كمذهب فلسفي وأخلاقي مقدس ومطلق، كأنما قدرنا في هذا لشرق هو التطرف، إما بالجمود أو الجحود. يقول الأمير شكيب أرسلان في كتابه ''لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم'': ''ومن أكبر عوامل انحطاط المسلمين الجمود على القديم، فكما أن آفة الإسلام في الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم بدون نظر فيما هو ضار منه أو نافع، كذلك آفة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغير شيئا ولا ترضى بإدخال أقل تعديل على أصول التعليم الإسلامي؛ ظنا منهم بأن الاقتداء بالكفار كفر... فقد أضاع الإسلام جاحد وجامد.. فالجاحد يأبى إلا أن يفرنج المسلمين وسائر الشرقيين ويخرجهم عن جميع مقوماتهم وشخصياتهم ويحملهم على أفكار ماضيهم ويجعلهم بالجزء الكيماوي الذي يدخل في تركيب جسم آخر كان بعيدا؛ فيذوب فيه ويفقد هويته وهذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه واعترافه بأن آباءه كانوا سافلين وإنه هو يريد أن يبرأ منهم، وهذا لا يصدر إلا عن الفسل الخسيس الوضيع النفس، أو عن الذي يشعر بأنه في وسط قومه دنيء ليس له نصيب من تلك الأصالة وهو مخالف لسنن الكون الطبيعية التي جعلت في كل أمه ميلا طبيعيا للاحتفاظ بمقوماتها ومشخصاتها من لفة وعقيدة وعادة وطعام وشراب وسكن وغير ذلك إلا ما ثبت ضرره''.
لقد اصطدمت الحكومات الليبرالية العلمانية والليبرالية العلمانية العسكرية بالمقدس الإسلامي حينما ألغت سيادة الشريعة ما خلق صراعا بين الإيمان كعقيدة والسياسة كممارسة وستظل هذه المشكلة الكبرى دائمة ديمومة الإسلام ذاته؛ لأنه نظام عقدي وسياسي في آن معا يقول الدكتور ''فز جرالد'': ليس الإسلام دينا فحسب، لكنه نظام سياسي أيضا، وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن التفكير الإسلامي قد بُني على أساس أن الجانبين متلازمان لا يمكن فصل أحدهما على الآخر ''وبافتراض أن العلمانيين العرب عقلانيون، فالعقل يقول إن تطبيق الديمقراطية في العالم العربي يفتقد لبنية التنظيم السياسي والحزبي والمهني مع تفاوت طبقي حاد بين الملاك القلة والمساكين الأكثرية، وبالتالي افتقاد الطبقة الوسطى التي تحقق الاعتدال والاستقرار والتماسك الاجتماعي، فضلا عن انتشار الأمية وإعلاء قيم العشائرية والطائفية والقبلية. إن كل تلك المعضلات تعمل على ممارسة ديمقراطية غير حقيقية، بل إن أغلب الممارسات في العالم النامي جاءت تحت ضغط الغرب كشرط للحصول على المساعدات الاقتصادية أو الحماية السياسية وأفرزت تلك التجارب تمثيليات سطحية كانت أحد مشاهدها الدرامية: تونس.

(5)
ما حدث في تونس هو تعبير عن مشكلة هيكلية في النظام الديمقراطي وافتقاد البنية الاجتماعية والسياسية الممكنة للحصول على نتائج نسبية، كما في الغرب حينما عالج الرأسمالية بالمزاوجة مع الاشتراكية، أما عن التخلف السياسي الذي يحصل للمسلمين فلن يكون إلا إحدى ثلاث: إلا إقصاء العدالة الإلهية الممثلة بالشريعة الربانية أو قصور علمائها عن الاجتهاد المشروع بما يحقق التبدل والتجرد والتغير المطلوب لمحاكاة العصر أو أن الفضيلة السياسية قد ضعفت عند القيادة السياسية والنبلاء بالمجتمع.
أيها السعوديون.. الحكم لله.. ثم لعبد الله بن عبد العزيز.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي