الطبقة الوسطى

(1)
جاء الطبقة لغة: ''والطبقُ أيضاً من كل شيء: ما ساواه, وقد طابقه مطابقة وطباقاً, ووجهُ الأرض, والذي يؤكل عليه والقرنُ, أو عشرون سنةً, من الناس والجرادِ: الكثيرُ, أو الجماعة''.
الطبقة اصطلاحاً: ''صنف, مرتبة, فئة ''class'' والطبقة نتيجة تصنيفية لمجموع أو مجمّع على وتدل في المنطق على مجمل الأغراض المشتركة في ميزة واحدة أو عدة مزايا''.
أما الوسطى لغة: الوسطُ, من كل شيْء, أعدله, (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) ''البقرة : 134'' أي: عدلاً خياراً والوسيط: المتوسط بين المتخاصمين، ووسط الشيء: ما بين طرفيه، ووسطه توسيطاً: قطعه نصفين, أو جعله في الوسط , وتوسط بينهم: عمل الوساطة, وأخذ الوسط بين الجيد والرديء. ''إن الطبقة الوسطى تنتمي إلى مفهوم الطبقة الاجتماعية ''social class'' والذي يعرف اصطلاحاً: ''مصطلح في سلم تكوين المجتمع ودرجاته, وتجمع الطبقة فئة من الناس يتساوون إلى حد ما في الدخل والمكانة الاجتماعية ويتشبهون في أسلوب الحياة ونظرتهم لها''.
(2)
وتؤرخ موسوعة السياسة للطبقة الوسطى في التراث الغربي ''middle class'': ''طبقة اجتماعية تقع بين الطبقة العليا، التي تتكون من النبلاء والأرستقراطيين، وبين الطبقة الدنيا الشعبية الكادحة، وتمركزها الاجتماعي، الذي يدل على مستوى الدخل والتكوين الفكري والنفسي فهي أعلى دخلاً من الطبقة الدنيا وأكثر تقبلاً للتغيير والتجديد وأقل تمسكاً بالعادات والتقاليد من الطبقة العليا، وتتجه للتعليم والمهن وتعود جذورها الطبقية في أوروبا إلى الطبقات التي كانت تعمل في المهن الحرة والحرف والتجارة في القرى الكبيرة وكان للطبقة الوسطى دورها المرموق في تقويض النظام الإقطاعي وبناء النظام الرأسمالي والديمقراطية والليبرالية ونشر التعليم، كما أنها أفرزت الفاشية والنازية من جهة أخرى، وإليها تنتمي أعداد كبيرة من المثقفين والمهنيين والعمال المهرة علاوة على أصحاب الأعمال وبعض الصناعيين''.
تنقسم الطبقة الوسطى إلى طبقتين رئيسيتين هما:
الطبقة العاملة والطبقة المؤثرة، فالطبقة العاملةworking class: ''أكبر طبقات المجتمع وأقلها دخلاً، وتشمل كل من يعمل في خدمة غيره سواء كان شخصاً حقيقياً أو اعتباريا كالشركات والهيئات، ويتقاضى عن عمله أجراً معيناً في حقول الزراعة والصناعة والخدمات، كما أن التعبير يشمل الذين يعملون عملاً ذهنياً تحت الظروف نفسها''.
أما الطبقة المؤثرة ''القائدة'' ruling class ''تعبير يشير إلى كل الأشخاص في المجتمع ممن ينتمون إلى هيئات عامة وخاصة متنوعة، (كالجيش، والدولة والهيئة التعليمية والشركات والهيئات الدينية..) والذين يحتلون مواقع ويقومون بوظائف من الأهمية بحيث تجعلهم يمارسون نفوذاً وتأثيراً''.
(3)
إذا قلنا إن الطبقة مفهوم اقتصادي ينتج طبقة اجتماعية مؤثرة ثم يفرز طبقة مؤثرة ''قائدة'' وأخرى عاملة فإن الإسلام أشار إلى مصادر كسب الإنسان وهما الملكية والعمل، سئل المصطفى صلى الله عليه وسلم: ''أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور'' رواه البزار وصححه الحاكم.
تنقسم الملكية إلى قسمين: الملكية الخاصة والملكية العامة، فأما الملكية الخاصة فيعرفها د. عبد الرحمن الشبانات في كتابه أدوات إعادة التوزيع: ''الملكية حق جامع مانع تخول المالك السلطات التي تمكنه من الحصول على المزايا المشروعة للشيء بالاستعمال والاستغلال والتصرف وله أن يمنع غيره من استعماله دون إذنه''.
ويقول عن الملكية العامة: ''جاءت الشريعة بمفهوم الملكية العامة والتي يكون فيها الملك لمجموع الأمة أو جماعة عامة منها، دون النظر لأشخاص أفرادها''.
ويقول عن العمل: ''كل عمل أو منفعة يؤديها الإنسان مقابل أجر يستحقه، سواء أكان عملاً يدوياً أو ذهنياً أو إدارياً أو فنياً''.
إن تصرف وممارسة أصحاب الملكية العامة والملكية الخاصة والعمال ستخلق خمس طبقات في المجتمع: ''الأغنياء، والميسورين، والمقتدرين، والمساكين، والفقراء''.
تنقسم حاجات الإنسان إلى ثلاث: ''ضرورية، وتحسينية، وكمالية''، وبهذا فإن الفقير لم يشبع حاجاته الضرورية فضلاً عن التحسينية والكمالية، وأما المسكين فدخله الشهري أشبع حاجاته الضرورية وبعضاً من التحسينية، فإما أن يصبر فيتعفف أو يستدين، أما المقتصد فدخله الشهري أشبع حاجاته الضرورية والتحسينية، وأما الميسور فدخله أشبع حاجاته الضرورية والتحسينية وبعضاً من الكمالية وادخر فائض دخله في صناديق استثمارية من أسهم وسندات إسلامية ''صكوك'' أو شراء قطعة أرض أو نشاط تجاري صغير، أما الغني فدخله أشبع حاجاته الضرورية والتحسينية والكمالية'' ما لم يكن بخيلاً ''ثم نمّى فائض ماله ''الثروة'' فأسس المؤسسات والشركات. إن الطبقة الوسطى بالمفهوم الواسع هم طبقة: الميسورين، والمقتصدين، والمساكين، والطبقة الوسطى بالمفهوم الضيق هم طبقة المقتصدين فقط.
(4)
إن الطبقة الوسطى في المملكة العربية السعودية هي الطبقة الأغلب من ميسورين ومقتصدين، ومن يقول غير ذلك فهو جاحد للحقيقة متجنياً عليها، ومن ينكر أن شريحة المساكين بدأت في الاتساع لأسباب ذاتية أو سياسات إعادة التوزيع فهو مكابر.
إن من أبرز عوامل زيادة شريحة المساكين هي:
1) الزيادة الكبيرة في عدد السكان والأعلى في العالم بنسبة نمو سنوية 3 % منهم 60 % أقل من عشرين سنة أي مستهلكين لا منتجين، كما أن السياسات الطبية الناجحة التي قامت بها الحكومة قد خفضت نسبة موت المواليد وهي من أفضل المعدلات في العالم مع زيادة متوسط عمر السعوديين.
2) كون الطبقة الوسطى في مجملها طبقة عاملة فإن نسبة البطالة المعلنة بلغت (9%) وعليه فإنها الطبقة الأكثر تضرراً، وقد تناولت الموضوع بالتفصيل في مقالتي ''معالي الوزير.. أرجوك افهمني''.
3) لقد ورطت الطبقة الوسطى نفسها بالديون التي بلغت (185) مليار ريال سعودي ذهب (85%) منه في إنفاق استهلاكي، مبرر من شريحة المساكين وغير مبرر من شريحة المقتصدين والميسورين في ظل سياسة ائتمانية منفلتة من القطاع المصرفي وعدم تكامل وتوجيه السياسة النقدية والمالية من قبل مؤسسة النقد ووزارة المالية ووزارة الشؤون الاجتماعية، وقد تناولت الموضوع بالتفصيل في مقالتي ''ست وسائل لمعالجة الدين الشخصي''.
4) الانفصال الجزئي للمدرسة الاقتصادية ومراكز التأثير المالي والاقتصادي في المملكة عن مفهوم إعادة التوزيع والاقتصاد الاجتماعي النظري والمؤسسي، الذي يعرفه مشروع الموارد البشرية وتنمية المهارات في كندا: ''قيام المؤسسات الاجتماعية بتشغيل الشركات وإنتاج السلع والخدمات وفق اقتصاد السوق لكنها تدير عملياتها وتوجه فوائضها في السعي لتحقيق الأهداف الاجتماعية''.
لقد تزايد التفاوت في توزيع الدخل في عصر النظرية الاقتصادية الرأسمالية بين الأغنياء القادرين على إشباع حاجاتهم وتحقيق رغباتهم والمساكين والفقراء العاجزين عن ذلك، والسبب الرئيس هو أن تلك النظرية ركزت على النمو في الناتج القومي الإجمالي الذي بدوره سيؤثر من خلال اليد الخفية في تعويض كافة المشاركين في العملية الإنتاجية الوطنية ويقضي على ذلك التفاوت.
يقول د. عبد الرحمن الشبانات: ''كثير من استراتيجيات التنمية الرأسمالية تقوم على افتراض أن الفقر يمكن القضاء عليه من خلال معدلات نمو عالية، وأن التوزيع يمكن العناية به بعد أن يتحقق النمو، وهذه الاستراتيجية أثبتت عدم نجاحها من خلال التجارب التنموية لبعض البلدان النامية خاصة في دول أمريكا اللاتينية وبعض دول شرق آسيا.
وقد ركز الفكر الإنمائي المعاصر على قضية التوزيع وأهميتها في تحقيق التنمية، سواء على مستوى الوسائل، أو مستوى الغايات، فبدون توزيع عادل لن يتحقق إنتاج متنام ومستمر، فالنمو في الناتج القومي الإجمالي لا يتساقط رذاذاً على قاعدة المجتمع وبدون توزيع عادل لن يتحقق القضاء على الفقر مهما تزايد حجم الإنتاج ومعدلاته''.
عزيزي القارئ.. دع عنك علماء الفكر الإنمائي المعاصر واذهب إلى الفكر الإنمائي عند الملك عبد العزيز، وستعرف عندها ماذا أقصد بالتوزيع والاقتصاد الاجتماعي: ''جاء طلعت حرب إلى المملكة العربية السعودية في عام 1354 هـ - 1935 م وسأل الملك عبد العزيز عما يقال من تحريم شرب الدخان في المملكة، فقال له الملك: بكم يدخن أفقر إنسان عندكم يومياً؟ قال طلعت: بقرشين، ثم سأل الملك: ما عدد الذين يدخنون على أقل تقدير؟ قال طلعت: خمسة في المئة. قال الملك: كم يقدر عدد سكان بلادنا؟ قال طلعت حوالي خمسة ملايين. قال الملك: إذا لم ننظر إلى جانب التحليل والتحريم وأبيح الدخان في بلادنا، فكم سيكون عدد المدخنين عندنا على هذا القياس؟ قال طلعت: سيكون العدد ربع مليون. قال الملك: وكم سينفقون من جراء ذلك؟ قال طلعت: خمسة آلاف جنيه في اليوم. قال الملك: ليس لدينا دخان يزرع ولا يوجد لدينا شيء من آلاته، فكله يأتي من الخارج. قال طلعت: هو كذلك. قال الملك: أي أننا سنرسل مع فقرنا خمسة آلاف جنيه هدية إلى الخارج كل يوم مقابل نفخة هواء.
قال طلعت: يقول الناس: إن لي شيئاً من العلم بالاقتصاد! والله إنك يا عبد العزيز، أعلم به مني، وقد ألجمت لساني، وأقمت علي الحجة. ''التوزيع عند الملك عبد العزيز يعني أن الإنفاق المرغوب هو ذلك الإنفاق الذي يستهلك مواد الخام الأولية الوطنية وشراء المعدات الرأسمالية المصنعة محلياً ثم يخلق فرص العمل في الزراعة وغيرها على أن يعاد تدوير العائد المادي ''الإيرادات'' إلى داخل الاقتصاد الوطني ولا يسرب الفائض إلى خارج الاقتصاد، وكل هذا وذاك يضمن المنفعة والإشباع المشروع للحاجات الضرورية والتحسينية والكمالية.
(5)
إن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز كان من أولويات مشروعه التجديدي هو استكمال بناء منظومة التنمية الاقتصادية عبر الإنفاق العام والهائل على ذوي الدخل المحدود والعجزة والعاطلين عن العمل عبر التوسع في التحويلات الاجتماعية والمساعدات والمنح والقروض عبر الصناديق والبنوك المتخصصة، كما شجع العمل الخيري المدني للنهوض بدوره ثم الإنفاق الرأسمالي في التعليم والتعليم الفني، فالتعليم يعمل على رفع مستوى مدخلات العمل وزيادة الإنتاجية وهذا ينعكس على المدى الطويل في زيادة الأجر والدخل.
إن تلك السياسات الإنمائية الاجتماعية والموجه للطبقة الوسطى بلغت ذروتها في ميزانية العام الحالي البالغة (580) مليار ريال ولن تأتي ثمارها النهائية إلا خلال أربع سنوات بإذن الله، وسيلمسها المواطن تدريجياً.. ويتبقى القيام بما يلي:
1) تحويل تلك السياسات الإنمائية الاجتماعية إلى جهة مختصة تدرس وتراقب وتحلل الآثار التوزيعية للاقتصاد السعودي ثم إصدار نصائحها لولاة الأمر من خلال تكوين مجلس أعلى اجتماعي أو تطوير المجلس الاقتصادي الحالي ليكون المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأعلى.
2) تحويل إدارة حماية المستهلك في وزارة التجارة إلى هيئة عامة مستقلة تمارس دور الرقابة على القطاع الخاص وحماية حقوق المواطن.
3) ابتكار وسائل تحد من تسرب صافي أرباح مشروعات الإنفاق الحكومية إلى خارج الاقتصاد وإعادة تدوير 30 % منها في شكل مشروعات جديدة أو 10 % بدعم برامج الاقتصاد الاجتماعي من خلال إدارات المسؤولية الاجتماعية أو المؤسسات الخيرية المدنية.
4) تعزيز دور الاقتصاد الاجتماعي للمشاركة في تحويل الإنفاق الرعوي الحكومي إلى إنفاق التمكين للمساعدة في حل المشكلات الاجتماعية.
5) إن التعجيل بآثار القرارات الاستراتيجية والكبرى لتلك السياسات الإنمائية يحتاج إلى إصلاح إداري واسع في المنظومة البيروقراطية الحكومية، وقد تحدثت عن ذلك بالتفصيل في مقالتي: ''قرارات الملك والجهاز الحكومي''.
6) على وزارة الشؤون الاجتماعية أن تشارك وتؤثر في وزارة التخطيط ووزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي نحو اقتراح الحلول الوقائية الاجتماعية.
إن الطبقة الوسطى من مقتصدين وميسورين هم الطبقة الأكبر، ومخاوفنا تآكل الطبقة الوسطى له ما يبرره عبر التأكيد على مفهوم الاقتصاد الاجتماعي وسياسات إعادة التوزيع مع أهمية معدلات النمو في إجمالي الناتج الوطني، وأن تنميتنا ونهضتنا الجديدة قد أدركت هذا بعمق وتتطلع لمأسسته.

أيها السعوديون .. نحن في أيد أمينة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي