الحرب النفسية (4 من 4)

(1)
قلت إن لكل مجتمع روحا ومن هذه الروح تنبثق نظمها ومنها النظام السياسي الذي يرتكز إلى شق ثابت مقدس وهو الشريعة " القانون الأسمى " الذي يحتكم إليه الجميع حكام ومحكومون ثم الشق المتغير وهو الفضيلة السياسية النابعة من درايته وخبرته وحكمته في التدبير وهي تعبّر عن قوة النظام السياسي والعكس صحيح .
إن النظام قد يتعرض للحرب العسكرية استثناءً والحرب النفسية دائماً, إما من حركات معارضة ثم عنف داخلي وإما الغزو الخارجي بشقيه الدعائي والمسلح.

(2)
إن هدف الحرب العسكرية هو التدمير المادي, أما هدف الحرب النفسية فهو التدمير المعنوي، وعليه دعني أعرف لك الروح المعنوية قبلاً، حيث يقول غوبون: "إن الروح المعنوية مزيج من الجوانب النفسية العقلانية والانفعالية الشخصية التي تعمل على حفز الفرد للعمل بالتعاون مع أفراد الجماعة التي ينتمي إليها في سبيل تحقيق أهداف الجماعة، وذلك على اعتبار أنها تسهم في تلبية حاجاته, وتحقق له حالة من الرضا".
فيما يعرفها هاريمان بأنها: "شعوراً انفعالياً حماسياً تجاه ما تقدم عليه الجماعة من أعمال, ويرى البعض أنها عوامل التوتر النفسي الناتج من خبرات النجاح أو الفشل, أو الضغوط التي تولّد الحاجة للعمل على مستوى الفرد أو الجماعة ".
إن الروح المعنوية هي هدف الحرب النفسية التي يعرفها جون سكوت في كتابه: الحرب السياسية: دليل للتعايش التنافسي": "إن الهدف الأساسي للحرب السياسة المدمرة هو إضعاف العدو ـــ وإذا أمكن ـــ تدميره بواسطة استخدام المناورات الدبلوماسية, والضغط الاقتصادي والمعلومات ـــ الصحيحة والمكذوبة ـــ والإثارة والتخويف والتخريب والإرهاب وعزل العدو عن أصدقائه ومؤيديه "أما بول لينارجر في كتابه "الحرب النفسية" يقول: "إنها استخدام الرعاية ضد العدو من إجراءات عملية وأخرى ذات طبيعة عسكرية, أو اقتصادية أو سياسية مما تتطلبه الدعاية "ويعرف الدعاية بأنها: "استخدام مخطط لأي شكل من أشكال الإعلام بقصر التأثير في عقول وعواطف مجموعة معادية أو محايدة أو صديقة، وذلك لتحقيق غرض استراتيجي أو تكتيكي معين، أما لاسويل فيقول إن الحرب النفسية "اختيار العبارات وترويجها بقصر التأثير على سلوك الجماهير".

(3)
إن الروح المعنوية للجزيرة العربية هي أكثر الأرواح تعرضاً للحرب النفسية ذلكم أن نيلهم من تلك الروح سوف يؤثر تأثيراً بالغاً لا محالة في العمق الإسلامي والعربي، كما أن هذه الروح هي الباقية على أصالتها التاريخية القومية وجذوتها الإيمانية وهي محط أنظار وآمال النفوس الأخرى.
إن مصدر الحرب النفسية في منطقة الشرق الأوسط قادم من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وإيران، أو قوى صغيرة تدور في فلكها, فالأولى يدفعها التوحش الرأسمالي، أما الدولتان الثانية والثالثة فيدفعهما الحقد والتعبئة الداخلية والدائمة من خطر الزوال كأقلية, والفلسفة السياسية الاجتماعية قائمة عليها, وإذا زال الخطر المصطنع زال النظام، ولذا تبادران بالهجوم الوقائي دوماً تحت شعار المظلومية. الجدير بالذكر أن التعميم خاطئ بالكلية فلا تزال هناك قوى خيرّة ترغب في التعايش والسلام والاستقرار والنمو والازدهار، كما أنني حينما أقرر ذلك وصفاً فلا يمنع التدبير والدراية من تقرير المصلحة المفضية إلى جلبها.
قال إيزنهاور عام 1952م في أحد خطاباته: "يجب أن تكيّف سياستنا الخارجية حتى توائم استراتيجية الحرب الباردة الموحدة المتماسكة, وفي روحنا وعزيمتنا يجب أن نرى في هذه الحرب الباردة فرصة كي نحصل على نصر دون خسارة في الأرواح كي نفوز في نضال من أجل السلام, فإنه لا فائدة من الانتصار العسكري إذا أدى إلى هزيمة سيكولوجية لنا".

(4)
إذا هدف الحرب النفسية هو الفكر والعقيدة والشجاعة والثقة، لذا علينا أن نقاوم تلك الحرب إما بشن حرب نفسية مضادة وإما توحيد الجبهة الداخلية أو بكليهما معاً، ويقترح في هذا الشأن ما يلي:
1) إنشاء مركز للحرب النفسية عبر تنسيق كافة الإدارات الحكومية العاملة في هذا الحقل نحو توحيد جهودها الفنية وإعداد الدراسات المشتركة والتدريب وتبادل المعلومات وتحليلها في إطار استراتيجي أشمل.
2) دعم إنشاء كرسي في إحدى الكليات السعودية المتخصصة في العقيدة والعلوم السياسية وعلم النفس والإعلام والاجتماع والاقتصاد، لغرض إعداد الدراسات الأكاديمية ذات الشأن بالفرد والجماعة والمجتمع السعودي، على أن يكون ذا صله بمركز الحرب النفسية.
3) تخصيص ناطق رسمي باسم رئاسة مجلس الوزراء لشرح وترويج القرارات والسياسات والمواقف من المستجدات، والمملكة لديها تجربة رائدة وناجحة في وزارة الداخلية حينما خصصت ناطقاً رسمياً باسمها، استطاع مع فريقه الإعلامي المحترف أن يحظى بمصداقية وطنية وشعبية عالية وقد أسهم إطلاق قناة "الإخبارية" حدثاً موازياً؛ تكاملت فيهما قصة التأثير والتفوق على إعلام التطرف.
4) نحن بحاجة لمبادرة إبداعية تربوية لتعليم التربية الوطنية عبر زرع التراث والحضارة في قلوب الناشئة عبر مشروع مشترك بين الهيئة العامة للسياحة والآثار ووزارة التربية والتعليم، حين تربط الوطنية بالجغرافيا والتاريخ فضلاً عن القيم الدينية النبيلة وربطها بوطن التوحيد والنبوة. لقد قدمت وزارة التربية والتعليم العام المنصرم تجربة عملية حيث طلبت للاحتفال باليوم الوطني المأكولات التاريخية فاحتفلنا جميعاً في منازلنا .. لقد نجحنا حينما جعلنا الوطن تنوع وثراء.
5) تطوير الموقع الإلكتروني للمملكة العربية السعودية باللغات الحية العالمية وتكثيف التفاعل بين المتصفح والموقع، على أن يتولى الموقع مؤسسة غير ربحية يديرها شباب سعوديون من الجنسين, يمكّن هؤلاء من إطلاق المبادرات الوطنية والإقليمية والدولية.
6) العناية بالرمزية والاحتفال وصناعة الصورة عبر التأكيد على الزي الوطني وإبراز العلم السعودي على جميع المصالح الوطنية والحكومية والخاصة والأهلية، فضلاً عن إطلاق جائزة سنوية تكافأ من خلالها المبادرات والإنجازات الفردية للمواطن المتوسط والبسيط، وإعطاء نموذج حي على دعم تجارب النجاح وتصميمها وصياغتها في قصة بطولة وطنية.
7) إظهار القوة وإبراز قياداتنا العسكرية عبر التعبير عن الجاهزية وتمثيل الأدوار "المحاكاة" بالحرب, فلن يكسب السلام والأمن إلا من أستعد له, ويأتي دور إدارات التوجيه بأدواتها المختلفة لإكساب الهيبة في الداخل وبث الرعب في الخارج.
8) تطوير نظام الاستماع لشكاوى وآراء المواطنين عبر هاتف مجاني أو الفاكس أو البريد أو البريد الإلكتروني من خلال ديوان المظالم كجهة قضائية محايدة، ما يسهم في علاجها إن كانت معتبرة نظاماً، وكذلك تحليل تلك الشكاوى والآراء في شكل دراسات تقاس فيها مستويات الرضا عن أداء القطاعات الحكومية والخدمات المقدمة للمواطنين، ما يفوت الفرصة على من يريد استخدامها كرعاية نفسية، فضلاً عن أنها أداة جيدة لتحسين كفاءة عمل القطاعات الحكومية .
إن العناية بالروح المعنوية تحظى بأهمية قصوى لأرواح الشعوب، ذلكم لأنها تؤدي إلى ما يلي:
1) تماسك الدولة ووحدتها وزيادة الشعور بالانجذاب والولاء من قبل الأفراد للدولة ولفلسفتها وقيمها ومبادئها وقواعدها ونظمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
2) تبريد مشاعر الخوف والقلق والاكتئاب والعزلة.
3) تعزيز قيم الإيثار والتعاون والتعاطف.
4) الشعور بالمسؤولية الجماعية أمام المخاطر والمصاعب والتهديدات.
5) زيادة الفعالية بزيادة الإنتاج وتحسين الأداء.
إن كل ما أوردته هو فعل تقني للحفاظ على الروح المعنوية ومجابهة الحرب النفسية التي هدفها الروح والنظام والفضيلة، أما الفعل العميق الذي يكفل حالة التدفق الدائم بالولاء فهو تعزيز النظام السياسي بالفضيلة التي تحدثت عنها في مقالتي السابقة "الفضيلة السياسية" وبالعلماء الربانيين المقاصدين الذين سوف أتحدث عنهم في مقالتي التالية "التجديد الديني" وبالنبلاء الذين تحدث عنهم في مقالتي "أين النبلاء"، كما أن النظام السياسي سيعبر عن نفسه بقيم أصلية وقوالب عصرية ونظرية سياسية لإقناع الشباب الذين هم 60 في المائة من المجتمع، والمقارعة العقلية للخارج؛ وكل ذلك سوف أتحدث عنه في مقالتي "سقوط الديمقراطية" وأخرى "الحكم الصالح".

(5)
إن الحرب النفسية هي قدر روح الجزيرة العربية، وعلينا أن نقوم بواجبنا التقني الغني وذلك ليس بصعب علينا فنحن نملك مقومات نجاح كبيرة وأبرزها تنميتنا العملاقة التي تسير بتؤدة إلى أهدافها، ومنها ميزانية الخير الأخيرة بـ 580 مليارا، عينها على تعليم وصحة الإنسان السعودي فضلاً عن نجاحاتنا الواعدة القادمة، وكذلك واجبنا الاستراتيجي عبر تعزيز الروح والنظام والفضيلة بالتجديد والإصلاح لمواجهة ذلك الغزو البغيض المعلن. يقول عالم الحضارة البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري: ".. أما ما أصبح اليوم مطلب الساعة في كل بلد من بلدان مجلس التعاون فهو الإصلاح المتضمن مبدأ المشاركة، بخاصة أن حالة الرخاء الاقتصادي التي تعيشها شعوب المنطقة قد أوجدت طبقة وسطى لا بد من أخذها بالحسبان بالنسبة إلى مستقبل المنطقة السياسي".
وترى أن "برنامج الإصلاح" في المملكة العربية السعودية ـــ أكبر أعضاء مجلس التعاون ـــ يكاد يطير على جناحين منذ أن تولى الحكم الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود, وذلك بناء على التراكمات الكمية ـــ من اجتماعية وسياسية وثقافية ـــ التي شهدها المجتمع السعودي وتحققت في عهود إخوان الملك عبد الله وأسلافه من أبناء الملك عبد العزيز, مؤسس الدولة وبانيها. هكذا فإن بناء الدولة وإصلاحها يعتمد مشاركة الناس من دون دولة قوية البنيان تحتضنه.
يقول صن تزو الصيني في كتابه "فن الحرب": "إذا عرفت العدو وعرفت نفسك فليس هناك ما يدعو إلى أن تخاف نتائج 100 معركة, وإذا عرفت نفسك ولم تعرف العدو فإنك سوف تقاسي من هزيمة مقابل كل انتصار, وإذا لم تعرف نفسك ولم تعرف عدوك, فإنك أحمق وسوف تواجه الهزيمة في كل معركة".
أيها السعوديون .. كلما نظرت في مكتسباتنا التنموية ونظرت في أعين شبابنا وشباتنا الملأى بالأمل, قلت: يا جبل طويق ما تهزك ريح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي