في عام 1948 كتب الأديب البريطاني جورج أورويل روايته الشهيرة المعروفة باسم ''1984''، تنبأ فيها بأن الأنظمة السياسية والعسكرية (وحكوماتها والأحزاب)، ستمنح نفسها صفة ''الأخ الأكبر'' على المواطنين، الذي يراقبهم، ويعرف مصلحتهم أكثر منهم!. وقد صدق أورويل في تنبؤاته، إلى درجة أن الفرد العادي في مدينة كلندن ــ على سبيل المثال ــ تراقبه 300 كاميرا على الأقل خلال يومه العادي. لكن مع انفجار عصر الإنترنت، وانفلات الشبكة الدولية، في كل مكان، مع سيطرتها على الحياة العامة والخاصة، باتت الأنظمة السياسية والعسكرية، هي نفسها، مهددة بالمراقبة الدائمة والمتابعة. فلم تعد هناك خصوصية، وإن وجدت بالفعل، فهي تتعرض للتآكل والاضمحلال. ففي هذا التحول، يبدو أن الأخ الأصغر هو الذي يراقب الأخ الأكبر، وإن كانت مراقبة هذا الأخير لا تزال سارية! هذا الوضع المتفاقم، طرح سؤالا كبيرا، تبدو صعوبة الإجابة عنه بنفس صعوبة الرد على السؤال التاريخي التقليدي ''من وُجد أولا البيضة أم الدجاجة''. السؤال الصعب هو ببساطة: ''مَنْ يسيطر على الإنترنت''؟! والسؤال الذي يليه على الفور هو: ''مَنْ يضمن أمن المعلومات''؟!
ما يخيف الحكومات الكبرى حاليا، ليس تهديد أمن المعلومات الخاصة بمواطنيها (ليس مهما استغلال بيانات المواطنين حاليا)، بل يخيفها مصير أمن المعلومات الخاصة بها. فالأولى تظل في ذيل الاهتمامات الحكومية، عندما تدخل المعلومات (الحكومية) في مرحلة إمكانية تعرضها لهجمات، يصفها السياسيون والعسكريون وحتى الاقتصاديون بأنها ستكون كارثية. والمُريع في الأمر، أن الجهة الأكثر رعبا من نجاح مهاجمي الإنترنت الحاليين واللاحقين، ومن فقدان السيطرة على الشبكة الدولية، هي من يتصدر موقع قيادة الإنترنت في العالم. إنها الولايات المتحدة الأمريكية! فالقائد بدأ يفقد سيطرته، وتصيبه الرعشة، كلما اكتشف أن جهات (أو أفرادا)، يحاولون التسلل إلى الشبكات الأمريكية. ولنا أن نعرف أن عدد محاولات التسلل إلى أنظمة الكمبيوتر في وزارة الدفاع الأمريكية، يصل إلى 250 ألف مرة في الساعة الواحدة، أو نحو ستة ملايين مرة في اليوم الواحد! وللمزيد، هناك 140 وكالة تجسس أجنبية تحاول التسلل إلى الشبكات الأمريكية، إلى جانب مئات الملايين من محاولات التسلل الفردية الفوضوية و''اللئيمة'' والمترصدة، التي تجري كل عام!.
لقد أصبحت الإنترنت، ساحة حرب جديدة، تضاف إلى الساحات القتالية التقليدية، وهي البحر والبر والجو والفضاء. ولهذا السبب أنشأت الولايات المتحدة، ما يمكن تسميته بتصرف ''وزارة الحرب الإنترنتية''، ولكن المشكلة التي تواجهها، أنها لا تضمن التفوق في هذه الحرب، رغم قيادتها لآلياتها الرئيسية. وإذا أرادت الإدارة الأمريكية، أن تحقق بعض الانتصارات ــ لا كلها ــ عليها أن تفرض رقابة صارمة ومحكمة على الشبكة الدولية، علما أن فرض مثل هذا النوع من الرقابة، ليس بالأمر السهل فنيا واجتماعيا .. وأخلاقيا أيضا. ولعل ما يقوله ريتشارد كلارك مؤلف كتاب ''حرب الإنترنت''، والمستشار السابق لأربعة رؤساء أمريكيين، يسترجع ما قاله جورج أورويل قبل أكثر من 60 عاما. يقول كلارك: ''لقد أنشأنا قيادة عسكرية جديدة لكي تدير نوعا جديدا من الحرب عالية التقنية من دون طرحها للنقاش العام، أو للنقاش في وسائل الإعلام، ومن دون إخضاعها لإشراف جدي من الكونجرس، أو للتحليل العلمي أو الحوار الدولي''. وهذا يعني، أنه بحجة الوقوف الشرعي والوطني في وجه المتسللين إلى الشبكات الأمريكية (والشيء نفسه بالنسبة لبقية الدول الغربية)، فإن الإدارة الأمريكية (والحكومات الأخرى)، ستعزز التوصيف الذي منحته لنفسها وهو ''الأخ الأكبر''، وستكرس دورها أكثر في هذا المجال، بالمبرر التاريخي الفضفاض وهو ''الأمن القومي''. لكن المشكلة أنها وإن ضمنت موقعها كـ ''أخ أكبر'' على مواطنيها، فليست هناك ضمانات لدرء الأخطار الناجمة عن تسلل المتجسسين .. بل حتى الطُفيليين العابثين.
