على الرغم من الأحاديث المطنبة في أوروبا هذه الأيام عن أزمة اليورو فإن اليورو لا يعاني أزمة. فحقيقة الأمر أن بعض البلدان تتعامل مع أزمة ديون سيادية فضلاً عن العواقب المترتبة على عدم كفاية الإصلاح الاقتصادي. والتحديات هنا ذات طابع خاص ولا تقتصر على منطقة اليورو. فالعديد من البلدان المتقدمة في مختلف أنحاء العالم تواجه مشكلات مماثلة.
ويتعين على كل بلدان العالم أن تستخلص استنتاجات قاطعة من الأزمة الحالية. ففي منطقة اليورو، وبدلاً من الاستمرار في إنكار أن الوحدة النقدية تحد من السيادة المالية الوطنية، لابد من قبول الواقع الاقتصادي وتبني قواعد أكثر صرامة في التعامل مع الميزانية.
عندما اندلعت الأزمة العالمية، نجح اليورو في حماية البلدان التي كانت لتنزلق في ظروف مماثلة إلى أزمة عملة عميقة لولا اليورو. ولعل هذا الدرع كان ناجحاً أكثر مما ينبغي، وذلك لأن البلدان الأضعف أداءً لم تتعرض لعقوبات تأديبية من جانب الأسواق المالية.
وعلى الرغم من الاختلال الهائل في التوازن والتفاوت الضخم في مستويات الديون الخاصة والعامة في مختلف بلدان منطقة اليورو، فإن الفروق بين أسعار الفائدة على السندات الحكومية اختفت في الفترة السابقة للأزمة. والواقع أن المشاركين في السوق ـــ بما في ذلك وكالات التصنيف والتقييم ـــ إما أساءوا تقدير حجم الخطر أو لم يأخذوا فقرة عدم الإنقاذ في معاهدة ماستريخت على محمل الجد قط.
وفي الوقت نفسه ظلت الآليات المؤسسية المصممة لتنسيق السياسات الاقتصادية والمالية خاملة. فعلى الجانب المالي، تمكن الضعف من القواعد التي أقرها ميثاق الاستقرار والنمو، وأصبحت القرارات الخاصة بتدابير التكيف والتعديل والعقوبات المحتملة معتمدة بشكل أساسي على اعتبارات سياسية قصيرة النظر.
وما دام خطاة أوروبا المحتملون مستمرين في إصدار الأحكام على الخطاة الفعليين، فإن ضغوط الأقران لن تكون مجدية. بل إن برامج الحد من العجز كانت في الكثير من الأحيان مؤسسة على توقعات نمو مفرطة في التفاؤل، وفي فترات النمو الاقتصادي القوي كان مبدأ الحد من الديون مهملا. ولم تكن الإحصاءات الدقيقة متاحة في كل البلدان، ولسنوات عديدة لم تكن الإرادة السياسية متوافرة لحماية الموازنات العامة من تأثير الشيخوخة السكانية المتزايدة على تكاليف معاشات التقاعد والرعاية الصحية.
وأصبحت كل هذه الإخفاقات جلية واضحة في عام 2005، عندما قررت الحكومات الأوروبية تخفيف صرامة قواعد ميثاق الاستقرار والنمو إلى الحد الذي جعلها اختيارية في الواقع العملي. ولقد انتقد البنك المركزي الأوروبي ذلك القرار، والذي تجاوزت عواقبه المأساوية أعظم مخاوفنا.
لقد ضربت الأزمة المالية الموازنات العامة الهشة بكامل قوتها. والواقع أن تأثير عوامل الاستقرار التلقائية أثناء دورة الانحدار الاقتصادي، ودعم الدولة للبنوك، وبرامج التحفيز المالي التي تبنتها الحكومات، كل ذلك ساعد في تقويض الاستدامة المالية.
وكانت إعادة تقييم المخاطر السيادية على نحو مفاجئ من جانب الأسواق المالية سبباً في وضع حكومات منطقة اليورو تحت ضغوط كبيرة لتقليص العجز لديها. ولكن الخطر لا يزال قائماً في أن يصيب الوهن عملية ضبط الأوضاع المالية العامة بمجرد أن تعمل درجة ما من خفض العجز على تهدئة الأسواق. وللحد من هذا الخطر إلى أقصى درجة ممكنة فلابد أن تعمل بلدان منطقة اليورو بشكل جوهري على إعادة صياغة وتعزيز البنية المؤسسية اللازمة لتنسيق الإصلاحات البنيوية التي تأخرت كثيراً وحماية الأموال العامة.
وستتطلب هذه الجهود إصلاحات بعيدة المدى. والمطلوب الآن يتلخص في انتزاع الصبغة السياسية من عملية المراقبة المالية والإشراف على الاقتصاد الكلي، فضلاً عن قواعد أكثر صرامة وإلزاماً في التعامل مع الميزانيات، وسبل أكثر سلاسة في فرض العقوبات على مخالفي هذه القواعد، والتنسيق الدقيق للسياسات الاقتصادية. وأفضل وسيلة لإزالة الصبغة السياسية من عملية الإشراف والمراقبة تتلخص في إنشاء هيئة مستقلة، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، في الوقت نفسه لابد وأن تشتمل القواعد الأكثر صرامة وإلزاماً على ارتباط أقوى بين معايير العجز والدين.
والواقع أن خفض مستويات الدين العالية حالياً في منطقة اليورو سيتطلب قدراً كبيراً من ضبط الأوضاع المالية. فأولاً، يتعين على الحكومات أن تخفض العجز المالي إلى أقل من 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك تمشياً مع ما تم الاتفاق عليه من قِبَل المجلس الأوروبي. وثانيا، سيكون لزاماً على الحكومات لكي يتسنى لها أن تضع نسب الدين العالية على مسار هابط أن تستهدف المزيد من خفض العجز بما يتفق مع أهداف الموازنة المتوسطة الأمد.
ولكي تتمتع العقوبات بالمصداقية فلابد وأن تكون سارية قبل فترة طويلة من وقوع أي بلد في مصاعب اقتصادية؛ لذا فلا ينبغي لها أن تكون ذات طبيعة مالية بحتة، ولكن لابد أن تشتمل على تدابير أخرى أيضا. ولا بد أن يبدأ فرض هذه العقوبات عندما تفشل الحكومات في تلبية الحد الأدنى من المتطلبات لتحقيق الأهداف المتوسطة الأجل. ثم لابد أن تصبح بعد ذلك أكثر صرامة على نحو تصاعدي كلما كان انتهاك القواعد أطول أمداً وأشد خطورة.
وحين يتعلق الأمر بالسياسة البنيوية، فسنكون في احتياج إلى بنية أفضل لعملية الإشراف على القدرة التنافسية لكل بلد على حِدة وحمايتها، ولعملية إزالة الخلل في التوازن. وهذا يتطلب رصد القدرة التنافسية وإخضاعها للمراقبة.
ولابد من إدراج البلدان تحت فئة المخاطر التي تتفق ومدى ضعفها الاقتصادي. وكلما كانت المخاطر أعلى كانت التوصيات أكثر إلزاماً بالحد من الخلل في التوازن، وكانت عملية مراقبة دقة تنفيذ التدابير المناسبة أكثر صرامة، وكانت العقوبات المحتملة للاستمرار في انتهاك القواعد أكثر صرامة.
ولقد اقترح البعض إنشاء مؤسسة جديدة لإدارة الأزمات، وهو ما قد يتطلب على الأرجح تغيير المعاهدة. ولكن إذا صادفت الإصلاحات في مجال السياسة المالية وتنسيق الاقتصاد النجاح فإن مثل هذه المؤسسة لن تحتاج إلى العمل أبداً، وبهذا تصبح زائدة عن الحاجة.
إن الإصلاحات البنيوية وجهود ضبط الأوضاع المالية العامة لا تصلح للبلدان التي تعاني عجزا في الحساب الجاري فحسب. لا شك أن الضغوط على هذه البلدان لدفعها إلى العمل شديدة بشكل خاص، ولكن لا يوجد بلد في منطقة اليورو يمكننا وصف وضع الموازنة لديه بأنه سليم بصورة مستدامة. فحتى بلدان الفائض لابد أن تتبنى التدابير اللازمة لتعزيز اقتصادها المحلي من خلال خلق الحوافز للاستثمار وتشغيل العمالة.
صحيح أن تدابير التكيف والتعديل هذه مؤلمة، ولكنها ضرورية. وفي غياب الإصلاحات البنيوية اللازمة لتعزيز تشغيل العمالة والنمو، فلن تكون حتى أكثر الجهود إخلاصاً في تعزيز التعافي مجدية سواء على الصعيد الاقتصادي أو الصعيد السياسي.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت/عالم أوروبا، 2010.
www.project-syndicate.org
