يعزو الأديب والمفكر اللبناني أمين المعلوف، اختلال العالم، في كتابه الذي يحمل العنوان ذاته، إلى اهتزاز ميزان القيم، مما جرَّ الكوكب بأسره ـــ وفق تعبيره ـــ إلى اختلال اقتصادي ومالي واجتماعي أدى بالنتيجة إلى تفاقم الاضطرابات والعوارض المصاحبة لها، والتي انتهت حتى الآن إلى الاختلال المناخي الناجم عن الممارسات الإنسانية غير المسؤولة.
ويتفق كثير من علماء الاجتماع مع هذه الرؤية، ويعتقدون أيضا أن سيطرة رأس المال وتسعير كل شيء أسهما بشكل كبير في نقص كفة القيم مقابل التطفيف في كفة المقابل أو العائد الذي أحال كل شيء في هذه الحياة إلى مادة قابلة للبيع أو الشراء.
الملك عبد الله بن عبد العزيز ـــ يحفظه الله ـــ بفطنته ونقاء سره وسريرته، وهو الرجل القادم إلى سدة المسؤولية بمنظومة طويلة من القيم الأصيلة التي تربى عليها منذ صغره، تنبه سريعا إلى هذا المنزلق الاجتماعي الخطير، عبر ما كان يحدث تحت عنوان العتق من القصاص أو الديات المبالغ فيها، فتصدى لها بما تستحق من العناية والاهتمام حينما عظَّم قيمة العفو والتسامح، ودعا أولئك العافين إلى ديوانه ليمنحهم أعلى درجات التكريم بغية صناعة القدوة الاجتماعية، وإعادة تأصيل العفو كقيمة دينية وأخلاقية وإنسانية، باتجاه ضبط معايير القيم الاجتماعية وتثبيتها في أذهان الناس، ومنذ ذلك الوقت أصبح مشهد الأوسمة التي تعلق على صدور العافين مشهدا مألوفا في أوساطنا الاجتماعية، بعد أن كانت الأرقام المليونية التي تُطلَب مقابل العفو هي الأكثر ألفة.
ولأنه ـــ يحفظه الله ـــ يؤمن بأن رسالته تلك تحتاج دوما إلى مزيد من التكريس لضمان ثباتها في مستقر الوجدان الاجتماعي كسمة أخلاقية مثلما كانت في السابق، فإنه لا يزال يستأنف هذا العمل الكبير حتى وهو في فترة علاجه خارج الوطن .. حيث نقل صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبد الله بن عبد العزيز أمير منطقة نجران، أخيرا للمواطن حمد بن علي اليامي في قضية وفاة ابنه الطفل الذي تعرض لحادث دهس بوسيلة نقل مدرسية تحيات وتقدير خادم الحرمين الشريفين ـــ سلمه الله ـــ على هذا الموقف النبيل، في الوقت الذي كان فيه نائب خادم الحرمين الشريفين الأمير سلطان بن عبد العزيز ـــ يحفظه الله ـــ يستقبل في قصره في العزيزية المواطن هادي بن محمد بن فرحان القحطاني بمناسبة تنازله عن قاتل ابنه مرضاة لله ـــ عز وجل ـــ ما يؤكد عناية القيادة بكامل رموزها بهذا التوجه العظيم، ومدى الاستجابة الكبرى من قبل المواطنين الذين وجدوا في دعوة المليك، وسمو ولي عهده، وسمو النائب الثاني، إلى إحياء هذه الشيم الأصيلة والاحتساب عند الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ ما يُحاكي بذور الخير في نفوس الجميع ورغبتهم فيما عند المولى من الأجر العظيم، انطلاقا من مماثلة العفو في المثوبة إحياء الناس جميعا.
إن العناية الكبيرة التي كرّسها خادم الحرمين الشريفين لهذه القيمة لا تعكس فقط مدى إيمانه وإدراكه ضرورة إعادة بناء ميزان القيم بين الشعوب جماعات وأفرادا وحسب، وإنما تعكس مدى إحاطته بضرورة التصدي لهذا المنزلق الخطير الذي نبّه إليه عديد من المفكرين وعلماء الاجتماع، وناشد به كثير من الدراسات التي تتابع حركة نمو المجتمعات وتطورها، وكيفية بناء الأنساق والعادات الاجتماعية التي قد يصيبها الانحراف في لحظة ما، ما لم تجد القدوة التي تستطيع أن تعيدها للطريق القويم، من هنا كانت ثمار مساعيه ـــ شفاه الله ـــ سريعة ومؤثرة، أولا لأنها تمت بقناعة راسخة منه، على اعتبار أنها أولوية من أهم الأولويات، ثم لأنها لاقت الأرضية الصالحة في نفوس الناس التي تنزع إلى الخير وتستطيب فعله متى ما وجدت من يدفعها إليه، وكيف هو الحال حينما يكون من يقوم بهذا الدور الكريم والكبير .. هو رأس الوطن وقائده وزعيمه بما يملكه ـــ يحفظه الله ـــ في قلوب أبنائه من أرصدة الثقة والمحبة والتقدير.
